حكاية بائعة الزيت (قصة قصيرة) / بقلم: ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين


ظهرها المنحني على برميل الزيت الضخم يؤكد أن فوق ظهرها هموم العالم، فالانحناءة ليست دليل الكبر والعجز فقط، ولكنه دليل الهموم التي تراكمت حتى أصبحت كتلة تتشبث في الظهر “كالحردبة” كلما قست الظروف.

تحاول العجوز حماية نقاط الزيت من الانسكاب على الأرض، بخفة ودقة متناهية تسكب الزيت من البرميل الكبير في الوعاء البلاستيكي الخاص بي، تغمس “الكيلة” في البرميل الكبير وتخرجها مليئة بالزيت المضيء اللامع، حيث اللون الأخضر الغامق الذي يشع اطمئناناً بأن الموسم هذه المرة جيد.

مشهد يتكرر في موسم الزيت والزيتون، سنوات طويلة تربطني بهذه العجوز التي نذرت نفسها لرعاية بقايا أشجار الزيتون التي تركها لها اليهود الذين صادروا القسم الأكبر من أرضها وأرض اخوة زوجها بحجة شق شارع للمستوطنة المجاورة.

هذه البقايا أصبحت بقايا الروح وانتظار الموسم الذي يسد رمق عائلتها. فأشجار الزيتون هي المصدر الوحيد لرزقها وخلال الموسم يكون في عقلها وذاكرتها عشرات الملفات المفتوحة التي تحوي الديون التي يجب سدادها وعدم دفعها معناه ضياع أحفادها الذين ينتظرون أيضاً مثلها الموسم، فهي المعيل الوحيد لهم بعد سجن والدهم.

اسمع القصة ذاتها سنوياً، حتى أصبحت جلستي أمامها وهي تسكب الزيت في الوعاء البلاستيكي الجزء الذي يسقط القناع الجامد عن وجهها، حيث تترك صوتها المفعم بالشجن ينساب مع قطرات الزيت.. هي تشتاق لابنها الذي استشهد في احدى المظاهرات التي اندلعت في القرية ضد بناء الجدار الفاصل، وتتمنى احتضان ابنها السجين الذي اتهم بتهمة أمنية وما زال يقبع في السجن منذ أكثر من عشرين سنة، وهي وحدها التي ترعى زوجته وأولاده الذين كبروا وتفكر الآن بمستقبلهم.

أما حكاية ابنتها الأرملة الشابة الذي قتل زوجها أثناء عمله في اسرائيل، فقد سقط عن احدى البنايات ولم يدفعوا لابنتها أي تعويض حتى أن المقاول قام بقضم راتبه الشهري لأنه عندما سقط الزوج كان نهاية الشهر.

همومها الآن أكبر من مشاعرها هي التي توفي زوجها نتيجة مرض السل وهي صغيرة السن تاركاً لها ثلاثة أطفال، لقد عبرت صحراء انوثتها بحرص واصرار وواجهت أهلها الذين كانوا يدفعونها للزواج مرة ثانية ورمي أولادها لعائلة زوجها.

وواجهت أيضاً أهل زوجها الذين حاولوا أخذ أرضها منها بحجة أنها صغيرة ولا تعرف شيئاً عن فلاحة الأرض وزراعتها.
كانت تختلط دموعها التي تسيل من بين التجاعيد المرسومة بازميل الزمن بالزيت الذي يزداد ارتفاعه في الوعاء.

عندما كنت أحدق بالزيت اشعر ان كل قطرة حكاية شقاء والم ودموع، خاصة عندما كانت تتنهد وتسأل بهمس محروق: لو بقي ابنها الشهيد على قيد الحياة لساعدها الآن في تربية الأحفاد وخفف من المعاناة!! ثم تنظر الي بعيون يتناثر بريقها في الأفق من أجل أي شيء استشهد ابنها؟؟ ولماذا سجن الابن الآخر؟ وما فائدة الاستشهاد والسجن ما دام الوطن لم يقدم لها الحياة الكريمة، فهي منذ نعومة أظفارها تعيش حياة الذل والقهر.. أما آن لها أن ترتاح وتعيش مثل باقي البشر وخلق الله؟؟!!

في احد المواسم ذهبت إلى بيتها كالعادة لكي اشترى الزيت، وكان الموسم شحيحاً في المحصول، وجدتها حزينة جداً تحسب وتطرح وتجمع، لا تعرف كيف ستعيش طوال العام، ثم قالت بسخرية لاذعة:

– شفتي امبارح على التلفزيون كيف كانت ضحكات اليهود والفلسطينيين مع بعضهم البعض.. والله كأنها سكاكين في قلبي… عل شان شو ابني استشهد؟ وعلشان شو ابني الثاني في السجن؟؟؟!!

لم اجبها لأن قلبها المكسور المتناثر في أرجاء العقد الذي تسكن فيه لا يمكن لملمته.. كانت تحكي وتعيد السؤال.. ثم تصرخ شو طالوا من الشهادة؟ حرم حياتو وحرم يعمل بيت واولاد.. سمعتوا عن ابن وزير أو مسؤول استشهد؟! واللي في السجن مين راح يهتم بأولاده الأربعة.. ثم تصمت كأنها في انتظار معجزة أو اعجوبة تخرجها من البئر العميقة التي تعيش في ظلماتها.

هذه السنة ذهبت كالعادة لأشتري الزيت، فوجدتها جالسة لوحدها في ساحة العقد.. طرحت عليها السلام، نظرت الي باستغراب، أطلت شابة من الباب وقالت: تفضلي..!
نظرت الي العجوز كأنها تسحب من ذاكرتها صوراً قديمة.. لكن سرعان ما أشاحت بوجهها وأخذت تحدق بالأفق البعيد .

فتحت الشابة باب العقد.. تفضلي:

– أنا بنت ابنها السجين .. قالت وهي تتناول أحد كراسي الخيزران الصغيرة ..وأضافت أن جدتها اصيبت بمرض الزهايمر ، في البداية عندما كانت تخرج من البيت لا تعرف العودة اليه ، ثم لم تعد تعرف أحداً .. طول النهار تنادي فقط على ابنها الشهيد وعلى ابي السجين ، في الليل نتناوب أنا وأخوتي على النوم الى جانبها ، فنحن نخاف من أن تصحو من نومها وتخرج من البيت .

جلست أنظر الى الحفيدة وهي تقوم بتعبئة الزيت، فقد انحنت على البرميل الكبير وغمست جهازاً جديداً يجعل الزيت ينطلق بسرعة نحو الوعاء البلاستيكي وخلال دقائق كان الوعاء قد امتلأ.
دون حوار وذكريات وسلسلة من الهموم التي كانت تفرشها الجدة – حتى كنت أشعر أن كل قطرة زيت في داخلها مئات القطرات من الدماء – تمت عملية الشراء.
وبينما كنت خارجة وقبل أن أصل البوابة… قالت العجوز:

– خايفة ابني يموت في السجن قبل ما اشوفو..
وجدت من السخافة والسذاجة أن اتكلم.. لا أحد سيسمعني، العجوز محاطة بضباب الضياع والهذيان، أما الحفيدة فقد دخلت و أقفلت باب العقد .

ذة. شوقية عروق منصور / فلسطين



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *