تحت عنوان: لما يتحول فعل الكتابة الشعرية إلى قطيعة لغوية و أدبية مع السائد على أرض وطن متوتر
تمهيد:
ـ لماذا قمتُ بتصنيف هذا العمل الأدبي؛ ديوان “مأساة و لكن” للشاعر السوري عزام الخطيب ضمن نماذج سلسلتي النقدية التطبيقية: أدب الحرب و الثورات العربي الراهن؟
لقد سبق لي أن ربطتُ في مقدمة لسلسلتي هذه نشرتُها سابقا في ثقافية الصحيفة العراقية “المراقب العراقي” (بنسختيها الورقية و الالكترونية) هذا النوع من الأعمال الأدبية بمُخلفات ما أطلِق عليه “الربيع العربي” منذ شرارته الأولى إلى اليوم. و من بين الأسئلة المحورية الجوهرية التي طرحتها، و قاربت بعض جوانبها:
ـ ما سرّ ازدهار الإبداع الأدبي و الفني في زمن الحروب و الثورات و الأوبئة؟
ـ و كيف استطاع أدباء و فنانو الغرب قبل غيرهم أن يجعلوا أعمالهم و نظرياتهم تتخطى الجغرافية لتسمو إلى الكونية بين و بعد الحربين العالميتين؟
ـ و كيف تأثرنا بها في الوطن العربي و خارجه كتيارات و مذاهب و مدارس فكرية/ فلسفية و إيديولوجية و أدبية و فنية مثل الواقعية الاشتراكية، و الوجودية، و الفوضوية/ العدمية، و السريالية، و العبثية، و العجائبية/ الغرائبية؟
1ـ قطيعة وجودية:
ديوان “مأساة و لكن” للشاعر السوري عزام الخطيب (الذي صدر في طبعته الأولى عن نون 4 للنشر و الطباعة و التوزيع. حلب/ سوريا سنة 2019) يندرج ضمن هذا الأدب دون أن يقتفي تقليدا و محاكاة آثار أدباء الغرب، و لا تياراتهم كما الشأن مع الكثير من الأدباء العرب (كتبتُ سابقا عن أعمال بعضهم)، و عيا من الشاعر نفسه أن العالمية تنطلق من المحلية؛ بمعنى أن السيرورة التاريخية للغرب غير التي عرفتها الأقطار العربية، و من بينها سوريا بلده، لأن شعوبنا خضعت مكرهة بقوة السلاح و القمع أيام الاستعمار، و بسبب استبداد الأنظمة، و أثناء “الربيع العربي” و بعده ل”قطيعة إبستمولوجية” مع ماضيها و مع طموحاتها المستقبلية. هي “مأساة و لكن” كما عنوان هذا الديوان الذي أراد منه صاحبه التوثيق إبداعا لمحطة تاريخية و سياسية و اجتماعية جد حرجة توقفت عندها عقارب الساعة السورية منذ 2012.
و رغم أن العنوان كعتبة يوحي و لا يُصرّح، فالنص الذي اختاره الشاعر عزام الخطيب على ظهر ديوانه تصريح مباشر؛ نقرأ من بين ما جاء فيه:
“إن أسوأ ما يتعرض له بلد هو ظلم شعبه. ما يزيد من القهر و الجور إلى حد لا يمكن تحمله. و هذا ما حصل عندنا في بلادنا العربية عامة و سوريا خاصة. فما كان من شعبنا الطيب المعطاء إلا أن أطلق صرخته الأولى و الأقوى ذات المعاني العظيمة مطالبة بالتحرر و الحرية من براثن القهر و العبودية…”
2 ـ قطيعة فنية أدبية:
قد يعتبر العديد من القراء (العاديين منهم و المتخصصين) ديوان “مأساة و لكن” للشاعر عزام الخطيب “مثيرا للجدل”؛
ـ من حيث: اختيار اللغة: فالديوان المتضمن لتسعين (90) نصا شعريا زاوج بين قصائد باللغة العربية الفصحى، و نصوصا (عددها أربعة) بالعربي العامي (السوري). و لم يكن هذا التزاوج الذي قد لا تستسيغه الذائقة التقليدية مجرد ملء فراغ أو تأثيث لصفحات كتاب، و ليس لمجرد استعمال اللسان اليومي المباشر لإيصال الرسائل لمن لا باع له في لغة الضاد الكلاسيكية، بل بهدف السخرية اللاذعة حتى من اللغة الفصحى ذاتها التي يسخرها الاستبداد إعلاميا و تربويا و إيديولوجيا و أدبيا و فنيا و حتى دينيا لاستعباد الشعوب بعيدا عن اللغة التي تفهمها و تمارسها عامة الناس. و لعل عناوين هذه النصوص وحدها كافية للدلالة على انتهاج الشاعر أساليب “الكوميديا السوداء”؛ و هي: “تواصل ما اجتماعي…حدثني الفايسبوك و قال…” (ص. 29)، و “عتريس” (ص. 53)، و “عتريس العشقان” (ص. 74)، و “عتريس الطرشان” (ص. 95). نقرأ من هذا الأخير هذا المقطع الشبيه بصيحة “فليسقط النظام !!!” كما سًمعتْ في ساحات التحرير إبّان “حِراك الربيع العربي” في عدة عواصم عربية:
“حتى الجار أبو صطيف
كان مارء بالحارة
لما شاف كل هاد
بلش تزمير و تطبيل
بكل همة و شطارة
و كلن صاروا يصيحو
لك حلّ عنا يا عتريس..” (ص. 98).
ـ و من حيث تكسير نمطية الوزن و قواعد التفعيلة في القصيدة العمودية: تظهر بُنى جل نصوص الديوان هندسيا على طول الصفحات على شكل قصائد عمودية بأبيات من صدر و عجُز و قافية. لكن سرعان ما ينتبه العارف لقواعد العَروض، و حتى المتذوق بأذنه لانسجام الإيقاعات و الجرس الموسيقي أن هناك ثمّة شيء ينقص هذه القصائد من حيث الوزن و التناغم؛ فيتساءل القارئ: هل يجهل الشاعر عزام الخطيب قواعد نظم الشعر العمودي و خاصيات بحوره؟ أم أن الأمر متعمّد مع سبق إصرار و ترصد لغرض في نفس يعقوب؟
فنرى الشاعر أحيانا يكاد يقنعنا أنه جاهل للقواعد كما نقرأ على سبيل المثال هذا المقطع من رائية “الملحمة”:
“ساءلت نفسي عما اعتراها من الهوى في هذه الأقفاص كما العصفور
فجاوبتني من العلياء حابستي كفاك فكرا تافها يا أيها الموتور
و ارْقَ بعقلك عن دناوة جاهل من فساد بلاد و شعبها المقهور” (ص. 7).
و أحيانا أخرى عالم بها فيعمد إلى مناوبة وزن مع آخر من بيت لآخر لتكسير البحر كما نقرأ في مستهل قصيدة “رسالة طفل”:
“طفل ينام بين الزوايا المُدَمّرَة و يشمّ مجبورا روائح مجزرة
ينام و يمسك ببقايا لعبة كانت له معها ليال مقمرة
متسائلا أين أحبتي الذين كانت لي عندهم بالونة مزهرة
كنا قد تواعدنا على لعبة شيقة تنسينا المقبرة” (ص. 17).
نموذجان صارخان يؤكدان للقارئ أن تغييب الإيقاعين الداخلي و الخارجي في النصوص (عدم احترام الأوزان، و تجنب أساليب البلاغة المألوفة من معان و بيان و بديع)، و اعتماد إما اللغة العامية، أو خلطها مع الفصحى، أو اعتماد معجم بسيط ينتمي للغة المباشرة، توجه مقصود من طرف الشاعر عزام الخطيب ليُنزِل الشعر من برجه العاجي، لينخرط في واقع يراه ملغوما و آيل للانفجار. هو لا ينتقم من اللغة العربية الفصحى و قواعدها و جماليتها بتكسيرها في حد ذاتها كمُكَوّن لِهُوية، و لتاريخ، و لحضارة… بقدر ما يفتعل هذا الهدم المقصود للدلالة على رفض لغة وظفها بعض الطغاة من الحكام العرب سياسيا و إيديولوجيا عبر المدارس و المعابد و وسائل الاعلام لتنويم الشعوب المستضعفة المقهورة لتعيش كما “أهل الكهف” في دهاليز ظلمات كما لو كانت في فردوس أندلس.
لهذا نسمعه يقول في مقطع من نص “رسالة طفل” (ص. 17 و 18):
“هذي التي سطرت فيها شعرا لعمرك كان مبعثرا
باحثا عن بقايا عاقل يشرح لي فيها أسباب المسخرة
ما كنتُ أدري أنني من عرب رهنوا دمي و فوادي للمقبرة“
و لا يكتفي الشاعر عزام الخطيب بتفجير غضبه على اللغة الشعرية التقليدية بالسخرية و تكسير القواعد و الأعراف، بل يلجأ أحيانا كثيرة لأساليب “الكوميديا السوداء” عبر نصوص بين نثر و شعر (و ليست لا بالنثر و لا بالشعر) مقتبسة من الحكايات الشعبية الشفوية القديمة عامة أو من كتاب “كليلة و دمنة” خاصة، معتمدا على شخصيات حيوانية بدلالات مجازية معاصرة ترمز للقوى الاستعمارية العالمية التي تتقاسم أدوار الهيمنة على التراب السوري و على رأسها روسيا، كما في نص “الغابة” (ص. 19 ـ 20 ـ 21 ـ 22)، نقرأ منه هذه المقاطع:
“تجادل الوحوش على سر الكهين
أهو فعلا حاميا أو مدعيا لعينا (…)
تقدم الدب مغرورا بقوته
من برد سيبيريا هاربا (…)
أعطاه الخلد صاغرا
مفتاح الحمى
و قال أرجوك خلصني من جموع المعتدين
فأنت الواحد الجبار
و أنا سيد الخادمين…“
3 ـ قطيعة مع المبادئ القارة:
و لأن شخصية “عتريس” في نصوص الديوان (و المقصود منها ربما رجال النظام الحاكم) لم تبرح مكانها، و لا غيّرت من أساليب قمعها و تسلطها و غطرستها و جبروتها رغم “الربيع العربي” حسب ما جاء على طول ربوع الديوان، فالكثير من السوريين الأحرار الذين بايعوا ثورة “الربيع العربي” وجدوا أنفسهم في متاهة الولاءات، فتراهم تارة يؤيدون هذا المعسكر، و تارة آخر، و غيره… و لعل أهم نموذج سلبي ساقه الشاعر لهذا التغيير المفاجئ في المبادئ، شخصية “عبد الباسط ممدوح الساروت” المذكور في قصيدة “الإعجاز” (ص. 6)، حيث نقرأ هذا المقطع:
“و البلد من بعد الرحمن مطاعة و ثالثهما حصرا معاني الحريات
يشدى بها الساروت الذي احترف الحراسة و رمي الجمرات“
و قد عرفنا الشاعر عن “الساروت” في أحد “هوامش القصيدة” كتب ما مفاده أن “عبد الباسط ممدوح الساروت” كان من الجولان فاستقر في حمص حيث امتهن كرة القدم كحارس مرمى… اشتهر بهتافاته أثناء الثورة التي تحولت إلى أناشيد مثل “جنة يا وطنا”… بعد هزيمة المعارضة المسلحة في حمص، اضطر لمبايعة جبهة النصرة، و داعش، و لم يُقبَل في صفوفهما…
كلمة أخيرة:
ديوان “مأساة و لكن” للشاعر السوري عزام الخطيب شبه وثيقة شاهدة على ظرفية تاريخية و سياسية و اجتماعية و أدبية فنية جد حرجة في سوريا إبان و بعد “انتفاضات 2012”. عبر من خلاله الشاعر عن غضبه الدفين و جراحه الغائرة و حزنه الصارخ بأساليب القطيعة و التكسير و السخرية و الكوميديا السوداء، فكانت اللغة العربية، و القصيدة العمودية أهم ضحايا هذه الانتفاضة النفسية الوجدانية و الوجودية ليس انتقاصا منهما، أو عن جهل بهما، بل ترجمة لهول الموقف الذي يعيشه الإنسان السوري داخل وطنه و خارجه.
قراءة ممتعة أتمناها لكم أعزائي القراء.