النص:
من وراء الضباب………………..
من تلك الكوة التي اطل منها
لاارى غير الحفر
وبقع العرق
///
ذلك الشيخ الكسيح
يعبر الهوة
بين الشمس والغروب
///
أذلك قدر الشعاع المسلط على وجهي؟
أذلك قدر الإنسان في زمن الذئاب؟
///
عواء في العمق
وهم من حولي ينهشون صدري
هذا الليل قد استسلم لليلي
فبات من شروده لايبرح ارضي
///
يدعون الإصلاح ما استطاعوا
يصفون الهارب من العدم بالعدم
لن أبوح للريح بسري
لان الأفق بلا سماء
لان الأفق بلا سماء
///
أنا الذي اكتوى بعشق التراب
ورائحة عرق الفقراء
أقول حكمتي وأرابط هنا
كما كان رفاق الأمس
///
أنت عاشقتي من بلاد الضباب
سنلتقي ذات لحظة
لأنظر في عين الخراب
ذلك المنعطف محك الرجال
///
انتم من صنع الكذبة في معامل النفاق
انتم من باع الوهم بثمن زهيد
لوكان الحلم قطعة خبز
لما جاع الرصيف
///
أيها التاريخ اعرف انك لاتكتب
الا بقلم الأسياد
فلا تكتبني حتى أتعلم
القفز على الحبلين
///
عشقنا مختلف
وحلمنا مختلف
لكن الأرض تسعني وتسعك
فاحملني لأراك
فاحملني لأراك
///
عاشقتي ألازال وجهها ضبابا
أراك من كوة في العمق
لأقول حكمتي
وأرابط هنا لأني الهارب من العدم
سأبوح بحزني ما استطعت
سأبوح بحزني ما استطعت
المبدع نور الدين برحمة / المغرب
القراءة:
أبدأ هذه القراءة المتواضعة من عنوان النص “من وراء الضباب……” والنقط المسترسلة في آخره والتي تشير إلى أشياء أخرى مضمرة لايريد الكاتب أن يفصح عنها، ليحيلها على ذكاء القارئ ويمنحه هامشا من الحرية في الفهم والتأويل، حسب مخزونه المعرفي ومؤهلاته النقدية. وهذه الأشياء المسكوت عنها يبدو أنها كثيرة ومتعددة بدليل عدد النقط والذي وصل إلى حوالي ثلاثين نقطة.. كما أن مايوحي به العنوان “من وراء الضباب” يعطي انطباعا بأن المشهد المرئي سيكون غير واضح ويصعب تحديد ملامحه ..
لكن بعد قراءة النص والتأمل فيه بعمق نجد بأن رؤية الكاتب واضحة وواضحة جدا فهو يرى ببصيرته أكثر من بصره، رؤية حدد من خلالها نظرته لواقع وأشخاص وأحداث تتفاعل داخل محيطه القريب والبعيد، يقبل بعضها، يرفض معظمها وهذا الرفض لايأتي اعتباطيا أو من فراغ، لكنه من منطلق مبادئ وقناعات اكتسبها عبر مسار حياته، تجاربه، ثقافته وفكره، وليس مستعدا للتنازل عنها والانصهار في المعايير الجديدة التي يفرضها واقع بدون هوية ولاملامح… وبذلك ترتقي رؤية الكاتب إلى مستوى الموقف الثابت الذي لايقبل المحيد عنه رغم كل الإغراءات والمساومات، بين مد وجزر تتنافر بل تتناقض فيه “الأنا” مع “الآخر”
من هذا المنطلق سأركز في قراءتي البسيطة هذه على ثلاثة عناصر أساسية:
* زاوية الرؤية
حددها الكاتب في “تلك الكوة التي أطل منها” والكوة هنا ليست نكرة بل هي معرفة و يبدو أن الكاتب تعود أن يطل منها على العالم والناس، و الكوة تعني لغة تلك الفتحة الضيقة التي يُراقب منها مشهد معين، وضيقها المادي لايعني الضيق المعنوي إذ يمكن أن تكون أوسع وأرحب من الكثير من النوافذ المشرعة التي لا يرى منها أصحابها شيئا… وترمز إلى ذلك الحصار الذي تفرضه هموم فكرية وثقافية يحملها الشاعر، تثقل كاهله و تحوله إلى سجين لمبادئه وقناعاته، يسقطها على الواقع المحيط به فتتنافى معه ويصبح ممزقا بين الذاتي والموضوعي… وتلك الأحاسيس الإنسانية التي تجعله يؤمن بقضية الإنسان في أبعادها الكونية، متجاوزا حدود الانتماء العرقي، الديني، السياسي أو الاجتماعي الطبقي ..
من خلال هذه الكوة هو لايرى غير الحفر وبقع العرق، والمقصود بالحفر تلك المطبات التي تحد من حرية الحركة والسير العادي والانطلاق والتحرر من القيود المادية والمعنوية… أما بقع العرق فقد ارتبطت في المخيال الشعبي بالمجهود الكبير الذي يبذله الشخص في سبيل كسب قوته اليومي ومواجهة إكراهات الحياة.. و الكاتب هنا لايرى المقابل المادي أو المعنوي الذي يستحقه هذا العرق ويتناسب معه، والذي يمكن أن يحقق لصاحبه الحياة الكريمة التي يصبو إليها
ف”ذلك الشيخ الكسيح يعبر الهوة” والشيخ الكسيح يمكن أن يكون شخصا مفردا، كما يمكن أن يكون مجتمعا بأكمله، أو يكون شيئا مجردا مثل زمن كسيح… والكساح هنا رمز للعجز وعدم القدرة على تجاوز المصاعب التي تواجهه رغم امتداد هذا المجهود على مساحة زمنية تبدأ مع الشمس دون تحديد توقيت معين لها، هل هو الشروق؟ أو توسطها كبد السماء أو بينهما، لتبقى البداية مفتوحة على كل الاحتمالات، لكنه حدد نهاية هذا اليوم الطويل الشاق بفترة الغروب .
ثم يتقمص شخصية ذلك الشيخ الكسيح ويتساءل “أذلك قدر الشعاع المسلط على وجهي؟”.. حتى الشمس ليست عادلة في توزيعها للنور والدفء وفي رسمها لمسار ذلك الشعاع… وتكبر دائرة السؤال لتشمل “الإنسان بمفهومه الواسع” أذلك قدر الإنسان في زمن لئيم غادر سماه زمن الذئاب..
ذئاب من بشر ينهشون الصدر كإطار لمكنونات هذا الإنسان وعواؤهم يتردد في الأعماق، وليل طال ولزم المكان، فاستسلم للشرود والظلام :
هذا الليل قد استسلم لليلي
فبات من شروده لايبرح ارضي
* أهم مايميز “الآخر” أو محيط الشاعر
– مجتمع أبرز سماته الكذب والنفاق الاجتماعي والسياسي
– بيع الوهم والأحلام والوعود التي لاتطعم جائعا ولاتنصف مظلوما من طرف محترفي الزيف والنفاق
– الانتهازية والقفز على الحبلين بل على حبال متعددة، وتغيير الأقنعة حسب ما تقتضيه المصلحة
– التحكم المادي والمعنوي، حتى التاريخ يكتب على مقاسات هؤلاء المنافقين والانتهازيين -ادعاء إصلاحات لاتوجد إلا في خيالهم المريض
– “العدمية وإسقاطها على كل من يرفض توجهاتهم” يصفون الهارب من العدم بالعدم
*ملامح الذات الشاعرة وموقفها من الآخر
– حب كبير للأرض والوطن.. “أنا الذي اكتوى بعشق التراب”
– الإصرار على الالتحام والارتباط بهما وفاء وإسوة برفاق الأمس المناضلين، والحاملين لفكر إنساني.
– مجرد عن المصالح المادية الضيقة
– حب المستضعفين وتبني قضيتهم والدفاع عن حقهم في الكرامة.
– الصمود والثبات على الموقف رغم كل المساومات، ورفض التنازل عن القيم والمبادئ حفاظا على الانسجام مع الذات على الأقل.
و “الإيمان بالاختلاف وتقبل الآخر” عشقنا مختلف // حلمنا مختلف // لكن الأرض تسعني وتسعك
احترام الرأي والرأي الآخر، وتبني مبدإ الحوار والنقاش قبل تقييم مبادئ ومواقف الآخرين وإصدار الأحكام عليهم.. وقد أكد الشاعرعلى ذلك حين كرر عبارة “احملني لأراك” وهي صيغة أخرى لقولة سقراط الشهيرة “تكلم حتى أراك” أو “أتحملني أم أحملك؟” التي وردت في ثراثنا العربي في حكاية مثل شهير
التشبع بفكر إيجابي ورفضه للعدمية “أرابط هنا لأني الهارب من العدم”.. فالأفق مفتوح لاحدود له، و”البوح بالحزن” هو لتجاوزه لا للتباكي عليه، والتأكيد على ذلك من خلال تكرار السطر مرتين
هذا ما ألح عليه الشاعر وهو يتساءل عن “وجه عاشقته” إذا كان لايزال ضبابا؟ وهو المرابط الذي يراها من “كوة العمق” هذه المرة..
تلك العاشقة “الهلامية” التي تتردد في كل إبداعاته فتأخذ صورة القصيدة حينا، رائحة التراب و الأرض حينا آخر، جمال الحرية وقدسيتها في أحايين كثيرة وإشراقة الحلم والأمل دوما، لتتجاوز بذلك مفهوم “العاشقة” بالمعنى التقليدي المتعارف عليه إلى معاني أرقى وأسمى بكثير.
أنت عاشقتي من بلاد الضباب
سنلتقي ذات لحظة
لأنظر في عين الخراب
ذلك المنعطف محك الرجال
بصيغة التحدي وبنبرة التفاؤل الجميلة هذه أختم هذه القراءة المتواضعة لهذا النص الرائع، القوي بعمق معانيه، الجميل بسلاسة لغته وألفاظه لمبدع كبير ومتعدد، جمع بين حكمة الفلسفة، عذوبة الشعر وجمال الالوان ليتحفنا بإبداعات راقية من مستوى رفيع
أتمنى أن أكون قد وفقت – ولو جزئيا – في تسليط بعض الضوء على ما وراء الحروف…
كل التقدير والاحترام لمبدعنا القدير نور الدين برحمة وبالمزيد من العطاء والتميز..