تحولت ليالي الدوار الهادئة، التي لاتكاد تسمع فيها همساً، لولا نباح كلب من بعيد، استفزته أشباح تعودت أن تخرج ليلاً للتجول في الشعاب المظلمة المحيطة بالدوار الرابض فوق هضبة مقفرة إلى ليالي صخب ووداع ودموع.
ففي سنة 1994 فرض الجفاف الأسود، الذي ضرب المغرب على سكان الدوار البحث عن مكان آخر يضمن لهم عملاً، يوفرون من خلاله قوت يومهم[…] معظم الأسر الفقيرة بالدوار التي لم تكن قادرة على الصمود في وجه هذا الجفاف القاتل فضلت الرحيل ليلاً إلى أكادير، هرباً من الجوع والعطش.
ينزوي اليزيد في ركن قرب منزله الطيني، يراقب النجوم في السماء، يتأوه كلما تذّكر أنه سيرحل قريباً عن دواره، حيث رأى النور لأول مرة، وترعرع عوده، وأنه سيترك وراءه قبر والده الذي أحبه كثيراً. يلتفت وراءه فيتبين في الظلام شبح صديقه العياشي، الذي قضى معه طفولته، عندما كانا يرعيان الغنم في الغابة، ويحلمان بالهجرة إلى آسفي للعمل في قوارب الصيد
يلقي العياشي السلام على صديقه ودون انتظار رده، يتّكئ على صخرة ناتئة، عجزت معاول الدوار عن تكسير إرادتها في البقاء.
– سي اليزيد، مالك مهموم، طلقها تسرح في أرض الله الواسعة
يرد عليه اليزيد، كلما دنا موعد الرحيل ينقبض قلبي، وتركبني عفاريت الحزن… لقد نجح الجفاف الأسود في الفتك بي
العياشي: سمعت أنك بعت ماتبقى من غنمك، والحمار الأبيض رفيق والدك السابق
اليزيد: وبعت الكلب الوفي ريكس… إنه الجفاف يا العياشي، قد يدفعك إلى بيع الأوفياء كذلك
كانت رائحة جثث المواشي والدواب النثنة تملأ سماء الدوار، ولم يعد ذلك النسيم العليل الذي يزور الدوار كل مساء قادماً من الغابة يأتي
يمج العياشي سيجارته الرديئة من نوع كازا ويتحسس نباح الكلاب، قبل أن يوجه كلامه إلى صديقه اليزيد.
الدوار أصابه مرض الفراق، المواشي تموت، والأسر ترحل، والبيادر تئن، والطيور ترحل، والأشجار تتساقط، باستثناء الكلاب التي زاد وزنها و كثر عددها…
يبتسم اليزيد مرغماً، صحيح لا أحد يمكنه أن يكون سعيداً في زمن الجفاف من غير الكلاب، التي وجدت في جثث المواشي والحمير وجبات دسمة.
يرمي العياشي بعقب سيجارته ويقول: هل يمكنها أن تفكر في الهجرة، كما هاجر إبراهيم و إسماعيل[…]
اليزيد: كيف يمكنها أن تهاجر، وتخلِّف وراءها هذه المآسي والموائد المجانية. هاجر إبراهيم لأنه لم يجد دقيقاً يصنع منه خبزاً لأبنائه العشرة، ورحل اسماعيل لأنه شيع غنمه وحصانه إلى بطون كلاب الدوار
العياشي: أيعز عليك أن تترك وراءك بيتك، وقبر والدك وطفولتك وترحل حيث لا تعرف أحداً
اليزيد: أعتقد أن الصواب هو أن تنهض من سقطتك وتذهب إلى الموت، لا أن تجلس في مكانك منتظراً قدومه
كانت تلك الآماسي من صيف سنة 1994 حزينة جداً، لا ننام إلا وقد ودّعنا أسرة من أسر الدوار، نقف أمام منزلها في انتظار تحميل المتاع البسيط إلى سيارة من نوع بيجو، يحملها الرجال قطعة قطعة، فتتعانق النساء ويرتفع العويل، رغم الجوع كنّ يقفن طويلاً في انتظار وداع الأسرة…يشغل السائق محرك السيارة، فتتعالى الأصوات، والضجيج
وحدهم الأطفال كانوا خارج السياق، لا يهمهم من أمسية الوداع سوى تلك السيارة التي يرونها لأول مرة تدخل إلى دوارهم، يحاولون الاقتراب منها ولمسهما… فينطُّون من السعادة، وحدهم كانوا قادرين على هزم الجفاف ببراءتهم
كانت تلك الأماسي حزينة للدوار الذي فقد أسراً كثيرة، فضلت الهجرة بحثاً عن ظروف أحسن، لعلها تنجح في هزم شبح الجوع الذي خيم عليها.
صارت ألعابنا محدودة، كنّا نجد صعوبة في تأمين العدد الكافي من الأطفال للعب كرة القدم، لذلك صرنا نتجنب التفكير في الألعاب الجماعية، وأصبحت طريق المدرسة الطويلة مقفرة ومخيفة، فبعدما كنّا نذهب إليها جماعات، صار عددنا محدوداً، وأصبحت المقاعد شاغرة في الفصل الدراسي… لا أحد طبعاً سألنا عن سبب اختفاء أصدقائنا، كانوا كلهم منشغلين بالأزمة الإقتصادية التي يعرفها البلد.
رغم حزننا على رحيل أصدقائنا، كنّا سعداء عندما نهجم على بائع الخردوات في السوق الأسبوعي الذي تعود أن يمنحنا قفة من الخبز اليابس، نتقاسمها بيننا، فصار بإمكاننا أن نحصل على كمية أكبر، وحده العجوز بائع الخردوات سألنا عن البقية من أصدقائنا، كنا نرد عليه: سيأتون يوماً ما، وأنّهم طلبوا منّا حراسة حصتهم من الخبز، كان العجوز يبتسم في وجهنا بمكر، مزكياً ابتسامته بنصيحة، صحيح، الله ورسوله أوصانا بالحفاظ على الأمانة.
فنجري في اتجاه سوق الخضر، نتنافس على جمع الفواكه المتعفنة من تفاح وليمون[…] تركها بائعو الخضر وراءهم، نأكل نصفها في الطريق دون الحاجة إلى غسلها بالماء، فالماء كان ثميناً آنذاك. يقطع الآباء مسافات طويلة لملأ قَرَب منه، يسيل معظمها في الطريق.
ذات صباح زارنا في المدرسة شاب أمريكي يتلعثم في نطق الحروف العربية، عرف بنفسه بقوله:
– إس…م..ي توم
بعد ذلك وزع علينا كؤوساً بلاستيكية، فرشاة أسنان ومعجون برائحة زكية، وعلّمنا طريقة تنظيف أسناننا بعد كل وجبة، تمنينا لو أن أصدقائنا الذي رحلوا عن الدوار كانوا معنا، وقاسمونا في طريق العودة إلى منازلنا وجبة المعجون الشهية.