حوار مع عبد الفتاح كيليطو : الكاتب، ثم ألف لغة ولغة* / ترجمة: د. سعيد بوخليط


الكاتب عبد الفتاح كيليطو

تقديم : يحدث أحيانا لمنظمي صالون أدبي أو احتفال ثقافي الالتماس من عبد الفتاح كيليطو كي يتكلم. خلال كل مرة، يدلي بذات الجواب: لا أعرف سوى الكتابة، لذلك يستحسن أن أترك لكتاباتي فسحة التحدث عني. يبهجنا دائما، أن نرى عبد الفتاح كيليطو، يعمل على نحو شعائري، من أجل تعرية أفكار طِرس، وحده يمتلك سره. عارف بأدق خبايا ألف ليلة وليلة، ثم الكوميديا الإلهية، و مقامات الحريري، ونصوص خورخي بورخيس– كي لا أشير سوى للجانب البارز من جبل جليده الذهني- ينجح أحيانا خلال كل لحظة، كي يصير مثل حائك، يرتق ثانية، خيوط أفكار كامنة في الظل، بين طيات نصوص تقبع في السرية أو تٌتناول كما هي، فأعاد ترميمها، انطلاقا من شكوكه كقارئ وكاتب، جاعلا منها حكاية تحبس الأنفاس.


جمالي بالتأكيد، مفكر دقيق، بلا ريب. منشغل خلال كل مرة بطرح أسئلة جوهرية عبر الأدب. الإشكالية اللسانية التي أثارت كثيرا من السجال، لم يتوقف عن التطرق إليها ضمن مداخل عدة ،بدءا بأسطورة بابل ولغة آدم إلى غاية أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية.لقد نجح كيليطو من كتاب إلى آخر، ومن محاضرة صوب ثانية، كي يقلب طيات إشكالية مركبة، كاشفا لنا عن الوجوه المختلفة للتعدد اللساني. أثناء ذلك، لم يطنب بهذا الخصوص، بل ألف مرة بالعربية وتارة بالفرنسية، متوخيا بانتظام، أن تسهل قراءته من طرف آخرين، لاسيما في الانجليزية والاسبانية والايطالية.


عبد الفتاح كيليطو المتوج بامتيازات أدبية، المزداد سنة 1945بمدينة الرباط، دأب بتأن منذ التحاقه بكلية الآداب في الرباط سنة 1968، ومناقشته لأطروحة الدكتوراه في السوربون سنة 1982، ثم استضافته من لدن الجامعات الأكثر اعتبارا (كوليج دوفرانس، هرفارد، برنستون، إلخ)، على تكريس الفن البارع والمتطور للببليوغرافيا- الذاتية. بدليل ، أن قراءاته حالت دون رؤية حياته. هذه الممارسة للكاتب-القارئ، عرف كيليطو كيفية تحويلها إلى كهنوت، الأمر الذي جعل منه كاتبا استثنائيا، لا يبشر قط بالكلام، لكن بكتابة يقتسمها بأناقة مع الجمهور.


بالتأكيد، وخلف هذا الانطواء الإرادي للكائن وراء العمل، يتجلى جانب من الوجل والتواضع، لكن خاصة الارتباط الايتيقي بمهنة كاتب، والذي لا يسهب في الكلام، سوى استنادا على ما قرأه، ثم أعاد قراءته وتملكه،وليس فيما يظنه. لكن هذا لا يمنعه، أمام نص مُهمل، المجازفة بخياله، حتى لا يكرر ثانية قط، أقوال فكر الآخرين بل أن يبدع فكره، انطلاقا من فجوات متعددة يحب التجول داخلها.


1- س- لقد استحضرتم في كتابكم ”تنازع الصور”، مقطعا عن “المسيد” وكذا مدرسة” غير الأوفياء”. ذاكرتكم مأهولة أولا بهذين الفضائين للتعلم، المقدس والمدنس. فلماذ استحضارهما ؟


ج- كان ذلك في بداية تكويني،مغامرة فكرية عشتها بصحبة العديد من التلاميذ. المدرسة القرآنية أولا، لغة القرآن، حروف مكتوبة على اللوحة، وحفظ بعض السور.على نحو ما، كان التردد على المسيد، فعلا ورعا، نستظهر خلاله القرآن بصوت مرتفع، مثلما ينبغي. حتما ، يمر شيء ما، ويتم تداول رسالة تطبع المرء دائما: الله، خلق العالم، الشيطان، الملائكة والأنبياء، الأتقياء والملعونين… بعد مرحلة المسيد، جاء دور المدرسة المسماة عصرية. أتذكر الفوضى التي تسود فناء الساحة، الذي شكل لدي بالمطلق مكانا جديدا، حيث شغب كثير من التلاميذ. لقد وجدتني، لا أدري كيف، داخل صف، جالسا على مقعد، أمام قمطر، لاسيما حيال حائط تؤثثه الصور. من جهة أخرى، رأيت ذلك لأول مرة، واحتجت إلى الوقت كي أتمكن فعلا من تفكيك تلك الرموز وكذا تعلم الحروف اللاثنية التي كتبها الأستاذ على السبورة، هو مغربي كان يدحرج للأسف حرف”R” بكيفية “غير سليمة”، إلى درجة أن هذه المسألة بقيت راسخة في ذاكرتي دائما.


2- س- بين صورة الفقيه العنيف والمتسلط ثم صورة الأستاذة الشقراء صاحبة الصدر المثير، بوسعنا استنتاج خلاصة جريئة: خلال اللحظة المفصلية للتحول، ستجذبكم الفرنسية مقابل نفوركم من العربية. جل عملكم يبعدكم عن هذا المعطى الجوهري. لكن هذه الصورة الأولى استمرت عند القارئ. كيف تفسرون ذلك بعد مرور كل هذه المدة؟


ج- لم أكره العربية، بل “المسيد” ربما، لكن موقفي انطوى على ازدواجية. وإلا لما حلمت خلال تلك الفترة سوى في شيء واحد، أن أصير بدوري فقيها؟ في المنزل، توخيت تمثيل الدور، محيطا نفسي بمجموعة من التلاميذ المفترضين. بمعنى ما، تحقق الحلم أخيرا. داخل المدرسة الابتدائية، لم أصادف سوى أساتذة فرنسيين. بالتالي، اختلف الوضع. اللباس الرسمي، المظهر الفيزيائي، الأناقة، السيارة الصغيرة، بمعنى نوعا آخر من الاثنية إذا صح القول. فرنسا، الحاضرة عبر الكتب والبعيدة… . كنت، مثلما أنا على الدوام، متسليا جدا، أنتشل نفسي من إطار الدرس، محلقا بفكري نحو موضع آخر. لقد انذهلت ذات يوم جراء تمكني من قراءة وكتابة لغة أجنبية. نفس الشعور إلى حد ما، الذي انتابني لما نجحت في قيادة دراجة، ثم خاصة تعلمي للسباحة. ذات يوم، طفت فوق الماء، مثلما ذات يوم حملتني الكلمات الفرنسية، وتواصل صنيعها معي.


3- س- تنبعث من قلب عملكم، صورتان فيما يتعلق بالمسيد وكذا المدرسة الفرنسية: صورة الطفل الغائب جسديا، في اختبار مع القرآن ككتاب، تلميذ يمحو اللوحة ثم ينمحي معها. ثم، صورة العلامة الكاليغرافية (عملكم حصان نيتشه) بتدوين ونسج نصوص الآخرين، حيث ينمحي كذلك مع فعله هذا. قليلا، مثلما يوحي عنوان أحد نصوصكم، نسيان الأنا التي تؤسس لعبتكم الأدبية. هل يعود ذلك إلى الحشمة، أو الخديعة أو السخرية؟


ج- أقر بأني لم أفهم أبدا هذه الصلة بين السبورة السوداء ثم لوحة المسيد، ولا التفكير في أن كلمة لوحة تعيّن والصورة ترسم ثم اللوح القرآني. المقارنة ثاقبة. أن تنمحي، تضع الأنا على الحياد، تلتف عليها، ترحل إلى موضع آخر، وتتكلم عن الذات عبر وساطة الآخرين. بالتالي ننتهي إلى ذات منكسرة، وهو شرط الكتابة، وضع لاءمني. إنه اختيار جمالي وعملي، في نهاية المطاف: أفضل صيغة للظهورهي الاختفاء، كما يقول عبد السلام بنعبد العالي.


4- س- في كتابكم ”لغة آدم”، شرحتم بمهارة المفارقة القائمة بين فكرة بابل الأصلية، السديمية ثم بابل الوجهة، نحو الجنة. فلماذا الرجوع ثانية بعيدا جدا بهدف الدفاع عن التعددية في العالم هنا والآن؟


ج- لقد قرأت في نصوص عربية قديمة دراسات حول اللغة الأصلية، ثم اندهشت لأن هذا الإشكال لم يتأت إلى ذهني. اهتممنا فيما مضى بلغة آدم نظرا لتعايش لغات متعددة داخل ”الإمبراطورية الإسلامية” وأنه ينبغي لنا حتما التساؤل حول لغة الجنة. العربية؟ الأرمينية؟ ولغة أخرى؟ البعض يضيف، حتى لا يزعج شخصا، بأن آدم تكلم جميع اللغات، فرضية تموضع التعددية عند الأصل وتستخف بحقبة بابل. إذن، التعدد اللغوي في البدء. سيقال تلك مجرد هذيانات ليس لها سوى فائدة توثيقية، لكن لم أكن لأستدعيها إذا لم تكن قضية اللغة تشكل اليوم راهنية شائكة. كقاعدة عامة، لن نهتم بظاهرة من الماضي إلا انطلاقا من الحاضر. يبدو كأني أتكلم عن أشياء بالية، لكن بكيفية غير مباشرة ألامس سجالا معاصرا.


5- س- سواء من خلال تفاعلكم مع إيمي سيزيرAimé Césaire مستشهدا بمحاوِرة في موضوع تعليم لغة المزيج، أو في هذه الجملة المستعارة من كافكا “أتكلم مختلف اللغات، لكن باللغة اليديشية” أو أيضا من خلال استحضاركم للغتنا الأعجمية، تطرقتم إلى التهجين اللساني كممارسة هامشية قلما حظيت بالتقييم من طرف نخبة. فما الذي أثار انتباهكم نحو هذا الحكم الماقبلي؟


ج- التهجين اللساني، أردناه أم رفضناه (قضية الصفاء، والطهارة)، يعتبر واقعة جلية، سواء على مستوى العلاقات اليومية وكذا ضمن النصوص الأدبية. في المدرسة الابتدائية، كان لنا أساتذة جيدون، ففي غضون سنوات قليلة، تعلمنا منهم بشكل سليم كفاية، طريقة كتابة تعابير إنشائية، باللغتين. هكذا أضحينا مزدوجي اللغة على مستوى الحياة. لايغيب عن أذهاننا، أن كل شيء يتم داخل حجرات المدرسة الابتدائية. الفرنسية (أو الانجليزية) ينبغي تعليمها في المدارس العمومية منذ البداية. بهذا الخصوص، أود الإدلاء بأمر: لقد كنت لسنوات عديدة عضوا ضمن لجنة لشهادة التبريز، مما جعلني ألاحظ أن المرشحين المتمكنين جدا من الفرنسية، كانوا كذلك فيما يخص العربية، مما يدحض أطروحة الجاحظ القائلة بأن مانبلغه مع لغة، نضيعه نحو أخرى.


6- س- في كتاب: ”لن تتكلم لغتي”، تستحضرون طويلا النزوع الطبيعي نحو عدم قبول أن يتكلم الآخرون بلغتنا، مهما كانت هذه اللغة. كيف تفسرون هذا الموقف المنطوي على أقصى درجات الاستئثار؟


ج- لا أعرف إذا كان بوسعنا التعميم. لقد استندت، خلال تطور المسار،على بعض الأمثلة الأدبية. لا نتحمل قط أن الأجنبي يفسد لغتنا، سواء عندما لا يتكلمها جيدا أو- وهذه مفارقة- لما يتكلمها على الوجه الأكمل. في هذه الحالة الأخيرة، نشعر كأنه يختلس منا ما يميزنا، خاصية هويتنا. لهذا السبب يرفض المغاربيون الذين يكتبون بالفرنسية، نعتهم بصفة فرانكفونيين، تحديد يعني من وجهة نظر معينة: لن تتكلم لغتي. قضية الفرانكفونية، أن يكون منقسما بين طموحه لمجاراة كتّاب الدولة المستعمرة سابقا، ثم أن يكتب تحديدا بلغتهم، مع إدراكه لقدرته على عدم التملص من لغته الأصلية أو كونه لايريدها.


7- س- يمثل عملكم نوعا من البيلبيوغرافيا- الذاتية. تكتبون عن قراءاتكم، وكذا القراءات المنجزة من طرف آخرين حول نفس النصوص التي تشتغلون عليها. الطرس، الناتج عن ذلك، يشبه قطعة أدب من ألف ورقة.


ج- أحببت كثيرا تعبير بيبليوغرافيا- ذاتية. ماذا يعنيه هذا التأويل في نهاية المطاف،غير سلسلة قراءات؟ أكتب من أجل التحدث عن أعمال تأثرت بها. ماتبقى، يعتبر مجرد ركاكة، أود القول: أدبا. لذلك أحب بهذا الخصوص كل الكتاب – القارئين، وعددهم ليس بالوافر، حين تأملنا المسألة. إن ما يدفعهم أساسا للكتابة، امتنانهم لتلك الأعمال التي انبهروا بها.


8- س- لماذا تعتقدون بضرورة اهتمام الأدب بالأدب نفسه؟


ج- وبم تريدونه الانشغال، إذا لم يكن بذاته وشؤونه الخاصة، بما يجعله لا أدري، ضروريا كي يقف على لا جدواه؟ هذا لا يحول دون الاهتمام بما لا يعنيه، لأنه حقيقة كل شيء يدخل ضمن اعتباراته؟ أيضا، ألم يكن ولازال كذلك، موضوعا لهذه النظرة؟ ألا يتأتى لنا معاينة، وفحص وجهه الخاص؟ حدّ هفواته الفريدة، حتى ولو احتجنا إلى الوقت من أجل تبينها والإصغاء إليها. بلا شك، استفاد فرويد أشياء كثيرة من سوفوكليس و شكسبير و دوستويفسكي، مقارنة مع جوزيف بروير Breur (طبيب وعالم فيزيولوجي نمساوي(1842-1925)) و جان مارتان شاركو Charcot (طبيب إكلينيكي وسريري وكذا الأمراض العصبية (1825-1893)). فكيف سنكون في العالم إذن دون الأدب؟


9- س- إحدى النقط المشتركة بين الجاحظ و بورخيس كونهما أديبين مولعين بالكتب. لكن ما الذي يميز كاتبا- قارئا خلال حقبة العصر الوسيط،عن كاتب- قارئ معاصر؟


ج- يعود الفارق إلى مرجعيات كل منهما.يتحاور الجاحظ بالعربية مع الحكمة الفارسية والفلسفة اليونانية، أما بورخيس فيتحدث الاسبانية مع الأدب الانجليزي والفرنسي والايطالي… مع ذلك يشتركان في نقاط عدة، بحيث عانى الاثنان من صعوبات بصرية. كانت قرنية الجاحظ بارزة، و بورخيس كفيفا، مثل المعري تماما. وإذا تكلمنا جديا- لكن مشكلة العين تبقى قضية جادة أليس كذلك؟- كانا قارئين كبيرين، يحبان التكلم عن قراءاتهما. موضوعهما المفضل: استحضار كتب والاستشهاد بها، أعتقد بأن 90% من عمل الجاحظ شكلته استشهادات. بالنسبة إليه، أن تكتب يعني الاستشهاد بنصوص، لذلك لايمكن عدم تذكر مونتين. لا ينبغي الاعتقاد، أن الاستشهاد يعكسا تمرينا سهلا، أو تمظهرا للكسل. يعرف، كتاب الأنطولوجيات، شيئا بهذا الخصوص. بورخيس تماما ك الجاحظ ،لايمكنه قط الكتابة دون الإحالة على هذا المؤلف أو ذاك، نصيا أو غيره. نقطة أخرى مشتركة ضمنيا، عندما يتأتى لهم أحيانا أن ينسبا خطابهما الخاص إلى كتّاب سابقين أو متخيلين.


10- س- في كتابكم العين والإبرة، تدعون القارئ، مثلما دأبت عليه دائما نصوصكم، إلى اكتشاف طيات وثنايا ألف ليلة وليلة وترجماتها المختلفة. تستحضرون خاصة عبر ذلك الأناة الضرورة سعيا لتملك الحكمة. إذن بين لذة القراءة وكذا التماس الحقيقة، ما الذي يحفزكم أكثر؟


ج- العمليتان مترابطتان. لا يمكن ضمان لذة القراءة سوى بالشعور أننا وسط ماهو صحيح، في إطار حقيقة مقام وصدق موقف. تتبين بأن الكاتب بصدد البحث عن فكرة وصورة، يعيش في ظل الارتياب والتردد والحرمان. إن ذبابة تصر على إزعاجه ثم لا يتمكن سواء من الإمساك بها أو إبعادها. انظروا مثلا إلى روايات جوزيف كونراد (كاتب وروائي انجليزي من أصل بولوني(1857-1924)) .في المقابل، هناك كتّاب يثيرون استهجانك تماما، لأنهم ببساطة وجدوا أصلا مبتغاهم، ولايقتفون، كيف نعبر عن الأمر، خطوات أي حلم. يهيئون لك السياق بكيفية ماهرة، لكن الأسلوب خاطئ ودنيئ. أو كما يقول لوثر (مصلح ألماني(1546-1483)) لقد: ((عثروا سلفا على جزائهم)).


11- س- تحوي ألف ليلة وليلة، سؤالا مركزيا متعلقا بتهديد الموت الملازم للراوي وحاجته للإغواء كي يحافظ على بقائه. إنه بالضبط ذات النهج الذي يشغل كتاباتكم. هل أنتم تلميذ جيد لشهرزاد؟


ج- منذ ترجمة ألف ليلة وليلة، ابتداء من سنة 1704، من طرف أنطوان غالان (مستشرق فرنسي(1646-1715))، أضحى كل الكتّاب تلاميذ لشهرزاد. من الذي لم يتأثر بتلك الحكايات؟ سواء كنا عربا أو أوروبيين، يستحيل عدم التعلق بألف ليلة وليلة. المثال الأكثر جلاء، يحيلنا بالتأكيد، على مارسيل بروست في: البحث عن الزمن الضائع، حينما يتخذ الراوي مع نهاية الرواية قرارا، قصد تأليف كتاب في مثل ضخامة ألف ليلة وليلة. إذا كانت على درجة من التأثير، فلأنها تطرح إلى جانب سؤال البقاء، قضية القراءة.على العموم، القارئ هو استحضار لشهريار. يتعلق مصير الكاتب بهذا الكائن المجهول، في أغلب الأحيان، مثلما أن مصير شهرزاد يرتهن بالإرادة الاستبدادية لسلطان ألف ليلة وليلة. الجاحظ، سيعبر عن ذلك بطريقته: يوصي الشخص العاقل كي لا ينسى قط بأن القارئ عدو. لا نبخس، بالتالي، مقدرته على المعرفة حينما يكتشف خلال القراءة،حقيقته الخاصة.


12- س- في عملكم ” Dites-moi le songe”، تحدثم عن تاريخ باحث مولع بالكذب اسمه إسماعيل كاملو، تصور نهاية أخرى لألف ليلة وليلة. ألف ليلة وليلتين، بل ألف ليلة وثلاث ليال، هي لازمة للأدب العالمي. فمن أين ينحدر هذا السعي للقيام بتأويل مختلف لنهاية النص؟

ج- البحث عن إعادة كتابة ألف ليلة وليلة، ليس سمة للعجرفة أو الوقاحة، بل بالأحرى الرغبة بغية الإبقاء على هذا العمل، حيا وعدم إغلاقه أو هجره. هكذا، تتعدد النهاية حسب الطبعات والترجمات. هو كتاب غير تام وسيبقى كذلك.أيضا، عندما تكون له خلاصة واحدة، فهي نقطة انطلاق جديدة، من هنا الرغبة المشتركة كفاية، بهدف كتابة أخرى لألف ليلة وليلة.


13- س- أنتم منتهك للأجناس بشكل دائم، على ظهر جواد بين البحث والسرد، ثم تعلنون بفكاهة ضمن إحدى نصوصكم بأنكم لستم سوى كاتب إنشاءات تعبيرية. فماذا تودون قوله خلف تواضعكم؟


ج- لكن، أليس الإنشاء نصا أدبيا؟ أتأسف أحيانا كوني لم أحتفظ بتلك القطع سواء بالفرنسية والعربية،والتي لم تكن سيئة. تخلصت منها، كما أفعل اليوم مع النصوص عندما أقرر عدم إصدارها، وقد تراكمت بين رفوف أدراجي. تأتي لحظة يصبح كل ماكتبناه مزعجا. أن لاتقدر على تحمله، استبعاد صورته وصوره. أحد شخصيات كتاب ”le songe Dites-moi”، تخلص من نصوصه وأتلف رسائله وصوره، متطلعا بذلك إلى القطع مع حياته السالفة. إنه نوع من الانتحار.


14- س- ثم، هل يعتبر خرق الأجناس عندكم، بمثابة التماس للحرية أو التفرد؟


ج- سنقول من باب التبسيط، لكن مع المبالغة بلا شك، أني رجل حر: لست مُرتبا لأجواء البحث الجامعي. بالتالي، لم تخرج عن هذا الأفق، أطروحتي حول المقامات لنيل الدكتوراه، فقد كانت بالأحرى تجريبا، وقد عبروا وقتها عن هذه الملاحظة من باب المؤاخذة. لما كنت طالبا في مرحلة الإجازة، قدمت تحليلات سيئة جدا، يكتنفني الشعور بالتعاسة، يضنيني الزمان وكذا أسلوب التعبير الإنشائي. لكن فيما بعد تداركت الوضع. في الجوهر، ماهو وجه الاختلاف، سواء أكان سردا أم دراسة؟


15- س- كتابكم : “dites-moi le songe” وكذا حصان نيتشه، ينتميان إلى قسم نصوصكم الأخيرة، حينما ذهبتم بتهجين الأجناس إلى أقصى مداه. هل تخليتم كليا مع مرور الوقت، عن قضية النوع الأدبي أو تتطلعون إلى تجسيد أفضل لتأملاتكم؟


ج-
يعتبر التباس النوع لعبة معقدة، ولا أظنه عكس ما يعتقد، كونه يمنح بامتياز فضاءات للحرية. إنه ليس بغرفة المهملات أو مجال للاستطرادات، بل له قواعده وكذا إكراهاته.إذا سعيت وراء ذلك، فلأني أتعمد قصده بالمعنى الصدامي للكلمة (هل تستفزني أم ماذا…). ألم تلاحظوا بأن شخصيات نصوصي، بمثابة قارئين وكتّاب أو بالأحرى كتّاب – متمرنين؟


16- س- تتصورون الكتابة ضد النسيان، مثل الرواة القدامى، ضد تهديد الموت، ومن أجل ترك أثر. هل تؤمنون بالخلود من خلال الكتابة؟


ج- سؤال جيد. البقاء أو “الرغبة القاسية من أجل الاستمرار” كما يقول إيلوار(شاعر سوريالي فرنسي). من الذي لايخجل حين إعلانه التفكير في المابعدي؟ أي مابعدي؟ إن قدرة الذاكرة العائلية منحصرة عند حدود جيلين: نتذكر فقط آباءه وأجداده، لكن من يعرف اسم والد جده؟ بيد أنه، من جهة ثانية، لماذا عندما يتقدم كاتب في العمر، يرنو صوب الشروع في إعادة ترتيب أوراقه، ومعاودة التفكير في مسوداته، وملاحظاته، ثم تمييز الغث من السمين، بل ويأمل في إصدار أعماله كاملة؟ أليس لأنه يستحضر، بكيفية أو أخرى، قارئا مستقبليا؟ أمر يبعث على السخرية: مادمنا لانعرف على وجه التحديد من يقرأنا اليوم، فبالأحرى مستقبلا؟ ثم أيضا، ماذا يتبقى من عمل في سياق الزمان؟ مقطعا شعريا أو مقطعان، فقرة، جملة؟ ذات الفكرة التي نستشفها من رسالة الغفران للمعري. أحيانا، لا يمكث من عمل ضخم سوى اسم مؤلفه. ربما ذات يوم، سيغمرني النسيان مطلقا، ثم يكتشف مؤرخ صدفة وثيقة، حيث يرثي ضياع كتاباتي، موجة سكولائية ستشير بأنه كان علي تأليف حكاية على لسان الحيوانات أبطالها الرئيسيون، الكلب والثعبان والجمل واللقلق والحصان. إجمالا، هذا المنظور ليس سيئا جدا.


17- س- منذ أطروحتكم حول المقامات، ركزتم في الغالب على التمكن غير المتوقع من طرف العرب على السرد النثري، بينما يدعون أنهم أسياد القصيدة. كيف تفسرون هذا الاحتقار؟


ج- سوء تفاهم لا ينبغي التأسف عليه. من جهة أخرى، لاينبغي الاندهاش لأن العرب قديما اعتبروا استحالة ترجمة شعرهم. بينما، النثر يستسيغ الترجمة، ثم النثر العربي هو الذي استمر ضمن آداب أخرى، لاحظوا أننا دائما في نطاق إشكالية البقاء والخلود. يمكننا تناول هذا بكيفية مختلفة والتساؤل إذا اعتقد العرب حقيقة بأن قصيدتهم كانت أفضل ما أبدعوه. أنا لست الوحيد حتما الذي طرح على نفسه سؤالا من هذا القبيل. حاولوا أن تتخيلوا العرب بغير نثرهم. في كل الأحوال،غير العرب، اكتفوا بذلك.


18- س- النصوص المبتورة، من ترجمة غالان لألف ليلة وليلة هي الأكثر التهابا. لقد أشرتم إليها دون البحث عن إظهار الأجزاء المبتورة. بالكاد تتطرق كتاباتكم للشبقية. هل تعتبرالكتابة في نظركم فعلا محتشما؟


ج- ترجمة غالان، التي لا توحي ظاهريا بأي أثر للشبقية، هي الأكثر إيحاء. لقد أضفى غالان الطابع الشبقي على الحشمة. في نسخته المترجمة، نشعر ونسبر، حدوث أشياء، فيصير المتواري أمام أنظارنا تقريبا. لهذا السبب ربما يفضل عدد من القراء نسخته، مقارنة مع تلك المنجزة من طرف جوزيف شارل ماردروس (شاعر ومترجم فرنسي من أصل أرميني(1868 -1949)) ، والذي لم يستعد فقط المشاهد الايروسية، بل أضاف إليها أخرى.


19- س- أنتم كاتب صاحب لوغوس مزدوج، وثنائي اللغة. تكتبون بالعربية والفرنسية، تترجمون وتٌترجمون ضمن الاتجاهين. خاصة، أن علاقتكم مع اللغة المسماة بلغة الآخر، تتسم بانتفاء الحماسة، إلى حد أننا لانعرف أبدا ماهي لغتكم. هل من توضيحات بهذا الخصوص؟


ج- يمكن القول، كتبت أغلب نصوصي، بالعربية أو الفرنسية. أقفز من لغة إلى أخرى، ثم خلال يوم من الأيام، تنتهي إحداهما بأن تفرض نفسها علي، وقتها تتجلى الرهانات. صفحات من كتابي “تصادم الصور” وكذا “حصان نيتشه”، دُبّجت أصلا بالعربية.


20- س- في كتابكم (dites-moi le songe) ، سميتم مترجمكم (A.K) ، أشرتم إلى اهتماماتكم الأولية، وتكلمتم بصيغة الغائب، كما لو تعلق الأمر بشخصية وهمية. فلماذا هذا النهج القائم على التباعد قصد التكلم عن ازدواجيتكم اللغوية؟


ج- هل يتعلق الأمر بي؟ أتمنى أن لايكون كذلك، ولا أشبه ذاك الأستاذ الجامعي المثير للاكتئاب، ولايصغي لطلبته، ثم عندما يرشح لعضوية لجنة مناقشة أطروحة، سينتظر إلى ليلة صبيحة المناقشة كي يتصفح العمل. في ذات الوقت، شخصية (a.k) أوشكت أن أكونه، بوسعي أن أكونه، وأخشى أن أكونه، بل أرفض أن أكونه. هو إحدى ممكناتي، غير المتجلية بعد، أو فقط تم تفعيل جانبا منها. لقد ظهر ثانية في كتاب “شرفة ابن رشد” في صيغة مترجم، وهو ما أنا عليه بشكل ما. ليس اسما مستعارا لكن على عموما، لسنا بعيدين،عن نهج فيرناندو بيسوا (شاعر وكاتب برتغالي(1888-1935)). ألم أخلق بوسائل متواضعة، شعراء، كتاب حوليات، أصحاب أطروحات… وقارئين؟


21- س- تستحضرون غالبا القراءات الاستشراقية، مع أقل تقييم ممكن، لكن مع هاجس التقويض. هذا ماصنعتموه مثلا بخصوص بيترارك ، الذي لايحب العرب. تتكلمون بالعربية أمام مستمع عربي في الشارقة بالإمارات. ما أثر التكلم باللسان العربي، أمام العرب، بخصوص مالايحبه العرب؟


ج- ظاهريا، بيترارك لا يحب العرب وقد صرح بذلك، لمن؟ لبعض معاصريه الذين يحبون العرب. بل يبدو كالوحيد الذي لايمكنه أن يحبهم. واحد ضد الجميع. والحال، كيف يمكنك الاتصاف بالصواب عندما تكون في مواجهة الجميع؟ هنا تكمن مشكلة بيترارك. من جهة أخرى، يصيح : ((ماذا، بوسعنا كتابته بعد العرب!)) كم هو ممتاز هذا التقدير للعرب من لدن مناهض للعرب؟ ينبغي التذكير بكونه معاصرا ل دانتي Dante والذي لم يضع حقيقة ابن رشد و ابن سينا في الجحيم، بل في مقام اليمبوس إلى جانب هوميروس و أرسطو و أفلاطون. أن تقول كلاما من هذا النوع أثناء محاضرة، أمام جمهور عربي، يحدث تواطؤا، ويخلق السرور. بينما ينبغي الحذر من المجاملة. الأشخاص الذين يكرهوننا، بوسعهم أيضا أن يقدموا لنا جميلا. كيف سيكون وضعنا، فرديا وجماعيا،بدون أعداء.


22- س- تقترحون تحديدا تاريخيا أدبيا مثيرا للاهتمام من خلال التأكيد على أن القرون الأولى المزهرة للإسلام (من الثاني إلى الرابع) هي هجرية ثم القرون المعاصرة ما بعد الانحطاط (انطلاقا من القرن التاسع عشر) هي بالتقويم الميلادي، مستندين على الترجمة، كمحدد. مادام في البداية، ترجم العرب اليونانيين، ثم تُرجموا بزخم، بينما أنقذوا الوضع بالكاد منذ النهضة نتيجة ترجماتهم للآخرين.هل ينبغي الاعتقاد أنه حينما تترجم بقوة فهذا يعني تسيّدك لحقبتك؟


ج- من الابتذال الإشارة إلى ازدهار الحضارة العربية حينما ترجم العرب (من القرن الثامن إلى العاشر الميلادي). حركة أخرى للترجمة، وكذا الاطلاع على آداب أجنبية، انطلقت خلال القرن التاسع عشر: مانسميه بالنهضة. فليس عبثا أن رواية المصري محمد المويليحي (1858-1930) ، حديث عيسى بن هشام (1907)، تبدأ بالعودة إلى حياة زعيم القضية، وبأن توفيق الحكيم كتب مسرحية أهل الكهف على موضوعة مماثلة. تندرج الترجمة في إطار علاقة القوى. نعرف، بأن الغزو الأوروبي للمشرق رافقه عمل ضخم للترجمة وكذا دراسة نتاج المشرق. اليوم، نلاحظ تخصيص استثمارات للترجمة من طرف بعض بلدان الخليج، يتجلى بلا شك وعي بالتأخر الذي راكمه العرب في هذا المجال.


23- س- في كتابكم: لن تتكلم لغتي، تستحضرون من خلال أحمد فارس الشدياق (1804-1887) السلطة المستلِبة التي تشكلها قضية التحدث بلغة الآخر مع نسيان لغتك. إذن ماهو حد المجاملة اللسانية؟


ج- أولا، ما نعتبره استلابا، يمكن النظر إليه بمثابة ثراء. لنكن منتبهين: ماهي آنيا، لغتي الخاصة وأنا أتكلم معكم، ثم لغة الآخر؟ و بأي لغة يتعلق الأمر؟


24- س- بخلاف كاتب ياسين الذي يتكلم الفرنسية انطلاقا من كونها غنيمة حرب، هل تنظرون إلى الثنائية اللسانية كعربون عن السلام؟


ج- قد تكون كذلك، وربما تصير أيضا عنصر تنافر. فليست غريبة عن الحرب. لغات الكتابة في حالة حرب. كيف ننظر في المغرب إلى كتّاب الفرنسية؟ بعد الاستقلال، لم ينظر بالأحرى إلى هؤلاء نظرة حسنة. بيد أن عدد الكتاب سواء بالفرنسية أو العربية، كان قليلا جدا. اليوم، لم يعد اختيار اللغة هاجسا أساسيا. السبب بسيط جدا: انحدرت قيمة الأدب، ولم يعد يثير اهتماما كبيرا، ولا يفتقده أحد. بل لم يعد يوجد قارئ ولا كذا كاتب، على استعداد للموت من أجل فاصلة.


25- س- يتجلى أولا تميزكم بفضل الإطار التركيبي لنصوصكم، الدائري والمضمر، وقد كُتبت بصيغة ضمير المتكلم حين الحديث عن آخرين. لقد أعلنتم سلفا، عبر استحضاركم لناقد عربي قديم، أن كل شاعر يعتبر مُنتحلا بصيغة من الصيغ. هل تركيبكم بمثابة الشيء الوحيد الذي لم “ينتحل”؟


ج- إذا حظيت بالتمييز نتيجة ماأنجزه من تركيب، وإذا كان الأخير ما يصنع فرادتي، إذن سيكون الشيء الوحيد الذي لا أدين به إلى أي شخص ثان. الكتابة، خاصية ثم مزاج، أسعى إلى تشكيله وصيانته وحمايته. إنه لايظهر مع الشفهي، بل أساسا بالمكتوب.


26- س- في الفصل المعنون ب”دي-لوغوس” من كتابكم أتكلم كل اللغات لكن بالعربية، تنسجون حوارا خصبا مع بعض الأسماء المغربية المعاصرة لكم أو السابقة عنكم: أحمد الصفريوي، عبد الكبير الخطيبي، إدمون عمران المليح، محمد برادة عبد الله العروي. غالبا ما تقاربون نصوصهم عند العتبة، ونقطة البداية. هل هو موقف ناقد أو زميل؟


ج- الآن وقد طرحتم علي هذا التساؤل، أشعر أن مجرد التوقف مليا عند أولى كلمات وكذا صفحات كتاب، يجسد بالأحرى موقف احترام.تقدير الكلمات الأولى للنص…ربما لأن كل شيء يكمن هنا،في نهاية المطاف.منذ فترة ليست بالبعيدة، التزم نقاد بتحليل مستهل الكتاب .ثم في ظل حماسهم،سيدرسون كذلك الكلمات والجمل الأخيرة،من هذا العمل أو ذاك.


27- س- تنسجون أيضا، علاقة متفردة، مع كاتبين آخرين. أتحدث هنا عن خورخي بورخيس و رولان بارت. لقد عرف الأول بموسوعيته وكذا صلته مع السيمولاكرات، والثاني بصرامته النقدية ثم عجزه كي ينهض باقتحام خطوة الكتابة الخيالية. فهل نجحتم في القيام بتآلف بين الاثنين؟


ج- لاأعرف من قال: ”اعمل على نحو يجعلك فريدا من نوعك ”. باستلهام مبدأ كهذا، والذي ينبغي أن يشكل شعارا لكل كاتب، أدركت بأن جانب التركيب عندي ، الذي بدا بأنكم تعتبرونه مميزا لكتابتي، ربما ينتسب إلى رولان بارت، في جانب كبير منه. إن كان الأمر كذلك، لنقل بالتالي وداعا للفرادة. أو لنبحث عنها في مكان آخر.

ترجمة: د. سعيد بوخليط


*هامش:


Fadma Ait Mous et Driss Ksikes :le metier d intellectuel ;dialogue avec quinze penseurs du Maroc.en toutes lettres ;2014.