
نص قراءتي في ديوان: ” حنين إلى زمن الحروف” للشاعر المغربي صديقي عبد الحق حسيني، تحت عنوان:
” كتابة الشعر باعتبارها تحقيقا لحلم مؤجل لأربعة عقود؛ أو الزمن المسترجع.”
” حنين إلى زمن الحروف”: مجموعة شعرية للشاعر المغربي عبد الحق حسيني. الكتاب من الحجم المتوسط (84 صفحة)؛ يتألف من 75 نص شعري إضافة لأوراق خارجية مخصصة للإهداء و المقدمة و الفهرس. صدر عن مطبعة “نجمة الشرق “بركان/ المغرب 2016؛ التصميم الفني للغلاف للفنان محمد الراشيدي.
قراءة انطباعية سريعة لعناوين النصوص قد توجهنا نحو مقاربة منهجية ممكنة تقوم على “رافعتين”. تستأنس الأولى ببعض آليات “نظريات التلقي” (Théories de l’énonciation) على شكل “مؤشرات تلفظية” لها علاقة عضوية بإنتاج خطاب النص الشعري (من وجهة نظر “النحو النصي” (Grammaire de texte ) مثل الضمائر.: “الأنا” (الذات الشاعرة)/ ” الأنتِ” (الحبيبة؛ البلدة؛ الأم؛ الحياة…)/ “الهُوَ” (الزمن)/ “الْهِيَ”.(كتابة الشعر). آليات نحوية/ بلاغية تساهم عبر بُنى نصية في إنتاج خطاب شعري يُوظّف ثلاثة حقول معجمية/ دلالية محاورها ثلاث تيمات/ أغراض شعرية:
ـ “الحنين”؛ ـ “الانتظار”؛ “تحقيق الحلم”.
فرضت بُنى نصوص هذه المجموعة الشعرية مقاربة منهجية تحاول تفكيك مستويين من تمظهرات الخطاب:
أ ـ على صعيد “ماكرو بنية النص”:
نقرأ هذه المقاطع/ النماذج من نص “يا ليل كنْ من الشاهدين”، ص. 70::
” لم أعد أرقب في ليلك
شمعات عيد ميلادي،
الملونة بألوان أناملك
التي رسمت بسمتي.
كلما همست لك تلك الكلمة
تشرق الشمس في وجهك،
تطرد النجوم الآفلة تباعا
خلف ستار عامي الأخير.
لا تنظري في عيني
لن تدركي أسراري
لا تتعدي شعيراتي البيضاء
التي تقرر اليوم مصيري…“*
بنية نصية و إيقاعية تتكرر في العديد من النصوص عبر ربوع المجموعة تستفز ذائقة كل ناقد (أو قارئ مختص) يدفعه فضوله لطرح السؤال التالي: هل هذا النص (أعلاه) و باقي نصوص المجموعة “شعرية”؟ أم “نثرية”؟ إذا نحن اعتمدنا معيار أهل النقد القديم الذي يعتبر “الوزن” (بمفهومه التقليدي) شرطا لابد منه لتقوم للشعر قائمة، فما كتبه عبد الحق حسيني ليس شعرا. و إذا نحن تأملنا “الصورة الأيقونوغرافية للنص” (Image iconographique du texte)، أي هندسة الشكل الذي يظهر عليه النص للعين القارئة، فما نراه ليس بالنثر. لذا، و رغم أن الشاعر عبد الحق حسيني صنف كتابه ضمن خانة النصوص الشعرية (انظر واجهة الغلاف)، فهو قد عمد إلى تقديم توضيحات تهم إشكالية “تجنيس” كتابه في مقدمته (ص. 5) حيث كتب: ” الحنين رسمته بين دفتي هذا الديوان فأسميته “حنين إلى زمن الحروف” ما هو إلا تعبير عن حبي للكلمة الراقية و اللحن الجميل و استحضار لملكة الكتابة الشعرية نثرا…” و من خصوصيات هذا “الشعر النثري” في اعتقاد الشاعرعبد الحق حسيني، نقرأ في نفس المقدمة (ص. 5): ” سوف تجدون قالبا شعريا ينحو إلى شكل فني متميز يجمع في طياته بين الشعر النثري و متحول للهايكو بطريقة سردية تنحو أحيانا لحكي و وصف رومنسي إلى حد الخيال السريالي في قالب السهل الممتنع…”
ب ـ على صعيد وظائف “آليات التلفظ” (Instances d’énonciation):
من هذه الآليات أربعة ضمائر: “الأنا”، و “الأنتِ”، و “الهُوَ”، و “الهِيَ.
1 ـ “الأنا” و له تجليات عدة: ـ هي ذات ساردة بضمير المتكلم تحكي عبر تقنية “تبئير داخلي” (Focalisation interne) انفعالي وجداني شعري بعض الفصول من سيرتها الذاتية. نقرأ في نص “بداية المشوار” (ص. 20):
” أنظف دفاتري من كل كبيرة أو صغيرة
أنتقي من يوميتي
ذكريات وترية أو قمرية،
تلك هي البداية
أم بداية النهاية؟ “.
ـ “الأنا” كذات شبه افتراضية في منطقة وسطى بين الواقع و الخيال؛ نقرأ:من نص “أنت ملهمتي” ، الفقرة الأخيرة، صفحة 8:
” طرقت مئات العيون لتنامي بحوزتي
فرعبت بأن أراك خارج مخيلتي
حتى أعلم من تؤرقني
و أعلم يقينا من تكون ملهمتي.“
ـ “الأنا” كذات عائدة من/ أو إلى الماضي. مِنْ….؟ أو إلى…؟ هنا تكمن المفارقة العجيبة الجميلة !!! بعبارة أدق: هل عاد الشاعر بخياله إلى الماضي ليتقمص شخصيته و هو شاب عشريني (بكل ما يحمله هذا العمر من رمزية و دلالات)؟ أم هي نظرة الشاعر الستيني (بكل ما يحمله هذا العمر من تجارب، و حِكَم، و عِبَر، و بعد نظر…) لمرحلة شبابه الأول، و كل المحطات الأخرى من حياته؟ نقرأ في أولى فقرات مقدمته، ص. 5: ” بعد سنوات من صمت عميق، لم يكن في أي وقت من الأوقات غيبوبة كاملة…” ما يوحي بأن لا علاقة بعودة الشاعر بقصة “أهل الكهف” (لم تكن غيبوبة كاملة). إنها بالأحرى تشبه إعادة بعث لتحقيق حلم مؤجل. نقرأ في بداية نص “عودة” صفحة 11:
” في هذه اللحظة أعلن يقظتي
أعلن خروجي من شرنقتي
كما تبعث فراشات الفجر
أشهد ميلادي“
2 ـ ” الأنتِ “:تتم مخاطبَة “أنتِ” عبر ربوع المجموعة الشعرية ” حنين إلى زمن الحروف” لعبد الحق حسيني على أنها “الملهمة”؛ نقرأ في نص ” كل القصائد أنتِ” صفحة 30
” في حروفها تسكنين
تتأنثين
بين أنواع القلائد
و أطياف العطر تتأرجحين
يسبقك الحسن
فتتنحى الغيد منتكسات
فلا تبالين.“
لكن خلاف الكثير من شعراء الغزل، يكتنف الكثير من الغموض هوية “الأنتِ”. هل هي الحبيبة؟ أم الأم؟ أم المدينة؟ أم الحياة؟ أم القصيدة؟… أم كلها معا؟ لذا تتأرجح طبيعة و وظيفة الضمير المخاطَبِ بين ” أنتِ ” و “هي”. مواصفاتها على طول المجموعة لا تحيل على أنثى بعينها؛ و ليست دائما أنثى. فهي (الأنتِ) ملهمة مجهولة كما جاء في نص “أنت ملهمتي” ، الفقرة الأخيرة، صفحة 8:
” طرقت مئات العيون لتنامي بحوزتي
فرعبت بأن أراك خارج مخيلتي
حتى أعلم من تؤرقني
و أعلم يقينا من تكون ملهمتي.“؛
و هي (الأنتِ) الحبيبة الملهمة (نص “كل القصائد أنتِ” (ً30)، و “البوصلة” ( نص “أنتِ بوصلتي” (ص. 33)، و المدينة ( نص ” حنين إليكِ بلدتي “(ص. 26)، و الأم (نص ” نبع الحياة ” (ص. 82). و يتأجج هذا الغموض و الارتباك عن قصد ابتغاء لجمالية الشعر و فسحة التأمل في نصوصه، في نص ” كذلك كان الأرق” (ص. 36) حيث نقرأ:
” بين الضباب و اللهب
بين السماء و الشفق
ينبعث أريج رباني
بين فاتحة كتاب
و إخلاص و فلق.
أرواحنا متأرجحة
تؤثث ليالينا البيضاء
لم يرتد فيها جفن
و ما انغلق.
تلاقت أجسادنا
متعبة عن غير موعد
نمتطي غيوم الصمت
أسرابا من ودق.“
3 ـ ” الهُوَ ” (الآخر): للآخر تمظهرات عدة عبر المجموعة الشعرية “حنين إلى زمن الحروف” للشاعر المغربي عبد الحق حسيني؛ الآخر هو ذاته “الأنا” في سياقات بعض النصوص، هو الشاعر الذي نام داخل الشاعر زمنا (40 سنة)؛ نقرأ:
” أربعون عاما
كل يوم أقلب صفحاتي
لأكتشف ذاتي
أرقب الجديد و القديم
بدون جدوي.” (نص ” بداية المشوار “، ص. 20)
و “الهُوَ” / الآخر رغم اعتماد فنية التشخيص البليغ لا يحيل دائما على شخص بعينه: هوَ (أو هِي) الزمن الماضي، هو الحياة و كلّ ما أثثهما من أناس، و أشياء، و أحداث، و تفاصيل صغيرة… البحث عنه و استحضاره كتابة يشبه النبش في الذاكرة؛ يشبه في تمثلاته و مخيلته إلى حد بعيدا ما أوحت به مجموعات روايات الروائي الفرنسي العالمي مارسيل بروست ” من “البحث عن الزمن الضائع” إلى ” الزمن المسترجع” (De « A la Recherche du temps perdu » au « Le temps retrouvé »). و من هنا جمالية و غرابة و فرادة هذا الديوان “حنين إلى زمن الحروف”. إنه حكاية عشق مؤجل للكتابة الشعرية بطلها شاعر (مع وقف التنفيذ لمدة 40 سنة). هدف نبيل رافق انسان دفعه هاجس التضحية لأجل أسرته الصغيرة و الكبيرة، و لأجل شغله كموظف في دوائر حكومية ذات وظائف حساسة حيث ارتقى بكفاءته العالية إلى أعلى الرتب و الدرجات، و لأجل وطنه و ذويه و أصدقائه و أقاربه و أصدقائه حتى بلغ سن الإحالة على المعاش… بعده فقط اكتشف أن الحصيلة ثروة لا تقدر بثمن: حب الناس له. حب لا مشروط للرجل الإنسان النبيل الشهم الذي خرج خلاف العديد من أقرانه الذي لم يحصدوا إلا الحقد و البغض و الإقصاء، مرفوع الرأس فاتحا ذراعيه للناس و للوسط الذي يعيش فيه. و بدل أن ينعم ب “استراحة المحارب”، راوده الحلم القديم المؤجل؛ أن يفتح الأبواب على مصراعيها للشاعر الشاب العشريني بداخله ليخرج، ليتنفس الصعداء، ليتحرر من كل القيود، و يكتب… يكتب… يكتب شعرا.
فتحية تقدير و تبجيل و احترام و مودة و محبة لا متناهيىة صديقي و أخي العميد المركزي المتقاعد الشاعر عبد الحق حسيني.
و لكم مني و من نافذة النقد، أعزائي القراء، أجمل التحايا و أرقها و أصدقها.
د. خالد بوزيان موساوي / المغرب
