“مجاورة الموت، وسيف ديمقليس المسلط فوق رؤوسنا، يجعلنا نعيش حياة أخرى،ثمينة للغاية، وأكثر حساسية” جوليا كريستيفا.
“كل الذين ماتوا،نجوا من الحياة بأعجوبة” محمود درويش.
لم تكن الموت حقيقة موضوعية، ولاأبدا خارج حقيقة الذات.بل تبقى الموت بعد كل شيء،حقيقة فردية؛يمارسها الفرد بطريقته الخاصة.يحيا موته،مثلما يموت؛إبان حياته بمسؤولية محض ذاتية،لامجال معها لمساحات الآخر،سوى بناء على كيفيات تأويل سياقات ماهيات الموت.
مع وباء كورونا،انتقلت الموت من هذا المستوى الأنطولوجي الخالص؛كي يتوزع دمها مشهديا بين قبائل عدة : الطبي والسياسي والاقتصادي والإعلامي…،بحيث يدعي كل مجال من تلك المجالات؛أحقيته وجدارته في حماية بقاء الإنسان،وأن يضمن له سبل طوق النجاة ومرافئ الأمان،حيال إعصار الموت المكتسح للعالم حاليا.ثم اشتعلت الحروب،بين الأطراف باسم واحدية الحقيقة ولازال جمرها يتوقد،بين تلك الدوائر،قياسا لطبيعة الإستراتجية التي ينبغي الالتزام بها،أو مابات يعرف بالبروتوكولات الصحية قصد الخروج بأقل الميتات الممكنة؛أمام سطوة الموت التي وضع تفاصيلها وباء كورونا. من نصدق حاليا ونسلمه حياتنا على طبق من ذهب :منظمة الصحة العالمية، العلماء،أبحاث المختبرات، لوبيات الدواء، الحكومات،الخبراء…؟
أعادت هزة الراهن،طرح سؤال الموت. الغائب/الحاضر. المؤجل/القائم. القائم/ الضمني والمفترض. فقد استعاد وضعه الطبيعي،بأن يكون سؤالا يوميا؛لكن ليس باعتباره مفهوما يشغل حيزا خارج الذات،يستحضرها تحديدا عند طغيان الهواجس العدمية،لكن انطلاقا من كونه تجربة مبدعة للحياة،لأن الحياة والموت،بمثابة استحقاقيين جديرين بصاحبهما، يصعب تحديد فواصل التداخل العلائقي بينهما.فالحياة والموت،يتأرجحان مفهوميا،حسب هذا الموقع أو ذاك،انطلاقا من طبيعة فهم الذات لوجودها،وكيفية تمثلها لصيرورة وجودها ضمن انتقالاته النوعية.
الحياة كالموت، لعبة مفاهيم، أساسا، بغض النظر عن حيثيات البيولوجية. كل فرد يتبنى لنفسه طريقة ما للحياة؛ مثلما يعيش موته بحياته، أو بالعكس،تكون حياته موتا.فالحياة وفق هاجس الموت،تصبح طاقة خلاقة تبلور الحياة باستمرار،في حين ،ينتهي الفرد مع التعلق بالحياة فقط ابتذالا، إلى موت مجاني، دون ذاكرة تذكر للحياة.الحياة تسكننا والموت فينا،نحياهما أو نسلبهما.
يتمثل الإشكال الذي بلوره الوباء،في هيمنة ثلاث حقائق :تعميم الموت،فورية الموت،حضور الآخر. هكذا،أضحى الموت قضية مفضوحة ومكشوفة،مع أنها حميمة في كنهها. أيضا،لم تعد الموت مجرد احتمال يؤجله الزمان،إلى لحظة أخرى ربما لاأكون هنا. أخيرا،تجلي حقا جحيمية الآخر.طبعا،يمثل كل واحد منا، آخرا، قياسا للجميع.
عشنا دائما تجارب الموت، قبل الوباء، برثاء روتيني غير واع، وطقس جنائزي رتيب، يقف موضعيا من باب الأعراف المجتمعية،عند الجهة الأخرى المقابلة لطقوس الأفراح.بمعنى، تندرج الموت اتفاقا ضمن قائمة “مؤسساتية“؛بمكونات التصنيف المجتمعي للأحزان.حاليا، استعادت موقعها الأصيل باعتبارها والحياة، سؤالين لحظيين متجادلين، لايتوقفان عن تبادل الأدوار، فلايمكن للذات أن تبدع حيوات الحياة، دون هوس خلال الآن نفسه،بميتات الموت.أفق، يقتضي تجاوز المنحى البيولوجي والعقائدي،بمختلف صيغه الدينية والدنيوية،والارتقاء بتجربتي الموت والحياة،نحو لانهائية تحققهما الأنطولوجي الشفاف