في ظل التحولات النوعية وتداخلاتها، تغيرت آليات اشتغال القص بأنواعه المتعددة، ومنها القصة القصيرة, بوصفها نوعا أدبيا قلقا في صيرورته التاريخية، إذ ارتهنت بتساؤلات التحول؛ لشدة لصوقها بالحياة الاجتماعية والمتغير اليومي من جهة([1])، وما تملك من ثراء نوعي وأسلوبي، وما تتيح من مجال للـ(أنا) المفردة – تأليفا وبطولة – من تعدد وتنوع وفرادة من جهة ثانية([2]) . وقد أثر على هذه التحولات بواعث عديدة:
خارجية: تتعلق بالواقع، وما رافقه من تغيّرات اجتماعية وسياسية وثقافية، فضلا عن التأثر بالمسارات الجديدة في القص العربي والعالمي، بدءا من القص الرمزي، مرورا بالوجودي والرواية الجديدة وتيار الوعي، والواقعية السحرية، وصولا إلى ما عليه القص اليوم.
وداخلية: تتعلق بذات القاص، ورغبته في الوصول إلى متغيرات جديدة في القص، عبر تفاعل مكونات التحولات: تحولات أساليب القص وصيغه وأنماطه، وتحولات التداخل النوعي، والعوم في فضاء النوع، والتحول في النوع ذاته. ولا تحدث هذه التحولات إلا بتظافر النزوع نحو التطور الداخلي وتحولاته من جهة، وعلاقة السياق الخارجي بالنوع الذي ينتمي إليه النص من جهة أخرى.
تنهض قصة (رجل من آخر الحلم) ([3]). للقاص ابراهيم سليمان نادر على سرد تتداخل فيه العقلانية التي ترفض كل ما لا يقبل التفسير، واللاعقلانية التي تقبل بعالم غير عالمنا له نظامه ومقاييسه المخالفة لتجربتنا البشرية ([4]) إذ عمد إلى إدخال القارئ في عالم آخر له قوانينه ومنطقه، وهو عالم الجن، وفي حكايات الجن لا يثير حضور الجني استغراب شخوص القصة ولا قرّاءها؛ بسبب تواطؤ القارئ مع من يخالف منطقه، وتخلّيه مؤقتا عن حسّه النقدي، وقبوله بدخول اللعبة الفنية، ومما يساعد على هذا التواطؤ أن القارئ يستسيغ العودة إلى تصورات الطفولة التي سبقت اكتساب التفكير العقلاني([5]). وهذا ما حدث للراوي، بعد أن أصابه الهلع وهو يبصر عيني (الشخص) المسكونتين بالرعب، ووجهه المغمور بنافورة من دم، وجسده المتسربل بالشحوب، وحين يتلمس طريقه بين الأشجار وقد أنهكه التعب، يفاجئه الراوي بالوقوف أمامه ويبادره بالسؤال وعليه أمارات الدهشة والغرابة والحيرة: ((من أي أتون أتيت؟!)) ([6]). فيسرد له الشخص الذي وقع عليه الحلم (ينكشف بعد تتبعه حتى نهاية القصة)، جلوسه أمام فانوس صدئ، وهو يرقب بصيصه الأصفر، وحين يرفع بصره نحو السقف، يرى أشكالا هلامية تذكره بفناء بيته العتيق والبئر السحرية، وكيف كانت أمه تخيفه:
((بجنية طويلة الأصابع، مدببة الأظافر، تخطف كل صبي يختلس النظر اليها)) ([7]).
وقبل أن يكمل قصته مع الفانوس، يعود بذاكرته على شكل تبرير اعتراضي ليعرب عن خوفه العميق من الاقتراب من البئر، وكيف كان يتحاشها، ولكن على الرغم من ذلك يتمنى العودة إلى البيت العتيق، وحارته المجنونة، ثم يعود إلى الفانوس وارتجاف بصيصها، وخفوت الضوء، ينتابه الخوف، فيقوم بغلق النافذة، الريح تشتد، وينتابه صخب يثير القيء والإحباط، وتتدحرج في رأسه كرة هائلة من الإبر جعلته لا يطيق الضوء والأشياء، والقاص هنا يهيئ لنا الفضاء الغرائبي ويحيلنا إلى وهم مخيف يعج بالجن والأشباح، فيعود بذاكرته على الجسر القديم، وذكريات (الجرادغ) ([8]). ولكن لا تستمر الذاكرة في استرجاعها؛ بل يعود إلى تكملة قصته الغريبة، – بصيغة ضمير المتكلم- بوصفه راويا موازيا، بعد أن:
((تصطفق الريح ثانية، وينفتح مصراعا النافذة، على مقربة من الجسر، ظهر لي شبحان طويلان، قويا البنية، ملتحيان، يركض وراءهما صبي، يشبهني تماما، ربما أكون أنا هو، ينسدل شعرهما الثلجي بغزارة مهولة على كتفيهما، في البدء خيّل لي أنهما طيفان خلّفهما الشيطان، ذلك الشيطان المدعو (صداع) فرددت على الفور بصوت عال حوار (كاسيو) في مسرحية عطيل: أيتها الروح الخفية، إن لم يكن لك اسما تعرفين به، فلنسمك الشيطان)) ([9]).
فالتناص الأدبي المتشكل من جملة من مسرحية (عطيل) وثرائه النصي، وتوافقه مع حال (الشخص) قد أضافوا ضياء لعتمة تأخذ حيزا ليس يسيرا من نفسية الشخص الحالم، لا سيما حين بدأ الغرائبي يفعّل حضوره النصي، عبر ظهور الشبحين، والصبي الذي هو الشخص الحالم بوصفه ظلال (قرين) لوجود مفردة (ربما) التي تأخذ الاحتمالية جزءا من التأويل.
ويستمر الراوي بسرد الحلم بوصفه معطى تعويضيا؛ لعدم وجود أية بوادر للانعتاق من الإحباط في الواقع، مما دعاه إلى تسخير قوة سحرية لتعيد الشخص إلى أحضان جدته (حسينة أم سليمان) وهنا نتوقف قليلا عند هذا التداخل الشخصاني – إن جاز التعبير- بين المؤلف الحقيقي والراوي والشخص الحالم والصبي الذي ركض وراءه الشبحان الملتحيان، ونستنتج بعد تتبعنا القصة حتى نهايتها، أن الراوي العليم وهو يوظف ضمير المتكلم في الروي ليقربنا أكثر من الوثوق والصدقية، والشخصية التي تحولت إلى راو مواز وظف الضمير ذاته، وذاك الصبي، ما هم إلا المؤلف أبراهيم سليمان نادر، فـ(حسنية أم سليمان) هي ذاتها جدة المؤلف، التي كانت تروي له حكايات الجن، وتمسد له شعره كي يهدأ وينام.
كما تستمر الذاكرة في تحشيد الفضاء الذاكراتي بالربيع، والانتشاء بين أحلام الأرانب البرية، وأعشاش القبرات، فيتخيّل بأن آلاف الرجال والنساء يرددون جميعا بصوت كورالي أخاذ:
((أيها الأمير الموصلي
لا تخف أبدا… فقد مات (عزيز ماكر) ([10]).
فناء بيتكم نظيف…….
حارتكم لا تنعق فيها الغربان…….
والجنية الشقراء لن تخطف أحدا،
(عيبو) ([11]). صديق الخراف البيض…….
والجب ماؤه نظيف…….
هناك حيث الجامع (المهدوم)) ([12]) ([13]).
إن حضور اللغة الشعرية بمفاتنها واستفزازاتها في لغة القص، تجعل الدلالات أكثر انفتاحا، لا سيما أن الملفوظ الشعري لا يحيل إلى معناه المعجمي، ولكنه يؤشر إلى دلالات يولدها السياق، ويؤدي الرمز فيها دورا فاعلا في الإحالة إلى خارج ذاته فهو ((شكل خاص من أشكال الخيال، الذي – كقاعدة – يحل محل شيء يمتلك أو يدّعي أنه يمتلك وجودا، ويكون قابلا لأن يسمى عن طريق دال خاص متفق عليه، مثل كلمة تشمل كل المدلول عليه، وتستثني معانيها أو احتمالاتها الرمزية فحسب، وعلى العكس لا يحدد رمز (شيء) – كقاعدة – الكلية الأساسية للشيء المرموز له، ولكن يسمى – فحسب – ما يمكن أن يعنيه أو ما يمكن أن يفعله ليؤدي معنى ما في بناء خيالي من العلاقات والسياقات)) ([14]). والرمز كما هو متعارف عليه يتطلب الدال والمدلول والدلالة، أما لغته فهي ((لغة يتم التعبير بها عن خبرات وتجارب داخلية نفسية، وعن مشاعر وأفكار كما لو أن الموضوع يتعلق بملاحظات حسية أو حوادث في العالم الخارجي)) ([15]).
والشخص الحالم لا يكتفي بهذا القدر من الاسترجاع الذاكراتي، بل يتذكر كيف كانت النشوة تهطل عليه كلما تقدمت منه الأصوات المبهجة، النساء الجميلات بملابسهن الملونة، والمرصعة بالجواهر ، وبريق القلادات في نحورهن، واللازورد يلف خصورهن، والأرض تكتسي بالأقحوان والنرجس والخزامى، وتذكر كيف كانت ترمى هذه الورود من قبل آلاف الأيدي ليتدفق عطرها إلى أعالي السماء كلما ذُكر اسمه، وهذه التشكيلة النصية التي تصف هذا الفضاء الخلّاب هي ليست وصفا جماليا يمنح القارئ متعة معينة فحسب، وإنما هي معادل موضوعيا للإحباط الذي أصابه من الواقع المر بكل حمولاته المعيشية. ولكن الشخص الحالم لا يريد البقاء في بريق كاذب يحاول أن يستغل صنعه ليذهب عنه الأسى والحزن، وإنما يترك ذلك ليعود ليروي اصطفاق الريح مرة ثالثة بمصراعي النافذة والباب، فيهتز أثاث الغرفة، ويسقط بعضها على الأرض، وهنا يدخلنا الراوي الموازي في لجة الفضاء الغرائبي من جديد:
((لكني لمحت الجنية الشقراء تلوح لي بأظافرها المدببة وذراعيها الطويلتين، ثم ظهر أحد الشبحين بجسه الناري زوجة جارنا من لسانها الطويل)) ([16])،
إن التحولات التي حدثت في هذه القصة لم تتم عبر الانزياح النوعي إلى القص الغرائبي فحسب، وإنما التداخل بين (الحلمي والغرائبي والذاكراتي) ونقل القلق والتردد إلى القارئ، ولكن ينتهي كل من القلق والتردد حين ينتهي الفضاء الغرائبي بعد إعلان الراوي إلى أن كل ما جرى تصويره في هذا الفضاء هو قد تم في الحلم، وبشكل شمولي، فإن التداخل بين الحلم والواقع، يمنح القص تشكيلا مغايرا، ومعبرا عن خفايا الإنسان، وقلقه الذي يلازمه، وحتى دوافعه في معرفة الوجود أحيانا.
نهضت هذه القصة على ثلاث وحدات سردية تناسقت فيما بينها، وجاءت تشكيلاتها السردية سلسة حتى يخيّل للقارئ أن القاص وظف هذه التقنية بشكل تقليدي كما وظفها غيره من القصاصين الذين وظفوا الرؤيا في البدايات التأسيسية للقصة القصيرة، وعلى الرغم من أن القاص يثير في القارئ جمالية الصدمة التي تنقله من مسار سردي ثابت إلى مسار قلق ومغامر، إلا أننا نبقى نتساءل: إذا كانت تقنية (الرؤيا) قد أخذت نصيبها في القصة العراقية منذ بداياتها التأسيسية فماذا حققت تقانة الحلم/ الغرائبي في هذه القصة بعد أن مرّ على فنيتها وتاريخها نصف قرن من التوظيف؟
لقد خمّنت القراءة أنها حققت قيمة جمالية قد تسللت إلى هذه القصة من خلال مستويين:
1- جمالية تخييب أفق توقع القارئ في الانتقال من الفضاء العجائبي إلى (حلم) بدا عاديا وباردا.
2- استمرار الحلم في تحفيزاته وكأن الرؤيا والعجائبي امتزجا في تلك اللحظة التي رأى فيها الشبحان والجنية الشقراء.
د. جاسم خلف الياس / العراق
([1]) النص الرائي/ أسئلة القيمة وتقانات التشكيل، الدكتور محمد صابر عبيد، المؤسسة الحديثة للكتاب، طرابلس- لبنان، 2014: 181.
([2]) بنية الجملة الاستهلالية في القصة القصيرة، ياسين النصير، مجلة الاقلام، ع 11-12: 256.
([3]) بسمة لكل الفصول، ابراهيم سليمان نادر، من إصدارات مديرية تربية نينوى، 2010.
([4]) السرد العجائبي والغرائبي، سناء الشعلان نادي الأسرة للثقافي والاجتماعي، 2007م: 21.
([5]) ينظر: معجم مصطلحات نقد الراوية، لطيف زيتوني: 87.
([6]) بسمة لكل الفصول، ابراهيم سليمان نادر: 5.
([7]) المصدر نفسه: 5.
([8]) جمع جرداغ وهي كلمة تركية تطلق على عرائش من خوص النخيل، تنصب على ضفاف نهر دجلة للسياحة في الصيف، حسب تعريف الراوي لهذه المفردة في الهوامش التي كتبها في نهاية القصة: 13.
([9]) بسمة لكل الفصول، ابراهيم سليمان نادر: 6.
([10]) (عزيز ماكر) رجل مجنون شديد سواد الوجه والثياب، يخاف منه الأطفال كثيرا.
([11]) (عيبو) فتى مسكين متخلف عقليا.
([12]) (الجامع المهدوم) خربة مسكونة كان الناس يعتقدون أن الجان يسكنون فيها.
([13]) بسمة لكل الفصول، ابراهيم سليمان نادر: 7.
([14]) الخيال والرمز بعدان للحقيقة، جورج ديفيرو، ترجمة عبدالهادي عبد الرحمن ، ضمن كتاب سحر الرمز (مختارات في الرمز والأسطورة) ، دار الحوار، سورية، ط1، 1994: 273.
([15]) الحكايات والأساطير والأحلام، مدخل لفهم لغة منسية، ترجمة صلاح حاتم، دار الحوار، سورية، ط1، 1990: 14.
([16]) بسمة لكل الفصول: 7.