قراءة في نص ” على أريكة الهوى ” للشاعر نور الدين برحمة / بقلم: ذ. الحسن أسيف / المغرب


النص :

نتوسد الخواء
ونرحل تباعا
لا نحمل
غير غصة
وماء أجاج في العين

يصرخون
ونصرخ
وهذا الجب
قعره أبعد من الموت

تلك الدروب العصية
على السير
كانت رحلة للعدم

يوم كانت
القصيدة كالجمر
كان غيري يلتحف
رداء التقية
وفمه الى الجدار
وبيته في زاوية النسيان

صدحنا بالأغنيات
ليموت الخوف
على عتبات الأمهات

أيها العائد مني لمنصة
العشق
كن كما كان بشر الحافي
كلماته قدت من جمر
والقلب بستان
والقلب بستان

الطريق الى قلب
الناسك
منعرجات
منعرجات
وهذه الارض
بالوعة النسيان

عبروا من خلال احلامنا
وسيجوا الحدائق
بالأوهام
وبعض الأسلاك
امتصوا رحيقنا
جرعة
جرعة
وافتحوا النوافذ
ليرقبوا عن بعد …عن قرب …أجسادنا ليقولوا كما قال بشر الحافي ما أكثر كلفتكم على الناس ……
……
وتستمر الأغنيات وان امتصوا رحيقنا وتركوا أجسادنا تعبر الطريق الى الطريق ….
…..
كالقصيد اكتب حرقة المعنى ….وفي كفي قلبي أراه ينبض ولو من وراء زجاج نافذتي …
….
نورالدين وكفى ….والباقي أغنيات ..


القراءة :

يقول غوتيه : ”  ينبغي على الشعر أن لا يكون إيقاعا فقط ، بل عليه أن يكون غناء أيضا

وقديما قيل عن البحتري ” أراد البحتري أن يشعر فغنى

هذا القِران بين الإيقاع واللغة من جهة والغناء من جهة أخرى  يؤكد على الوظيفة الرمزية والانفعالية للغة  حيث أنها  الوسيلة ــ بالإضافة إلى وسائل أخرى ــ للتعبير عن الأحاسيس والتأثير على الآخرين ، والخطاب الشعري تطغى عليه هذه الوظيفة الانفعالية ..ترى ، لماذا هذه المقدمة ؟؟

بكل بساطة ،  أظن أن قصيدة ”  على أريكة الهوى ” للشاعر الكبير نور الدين بالرحمة تحيلنا على هذه التعاريف  التي تم ذكرها ،و التي سأتناولها  بشكل مفصل فيما سيأتي .

ولكن قبل كل شيء أبدأ بالعنوان  المفترض ”   على أريكة الهوى “، أقول المفترض لأنه لم يكن منفصلا عن النص ، بل كان له ابتداء ً .

وفي الأدب تتنازع العنوان َ  عدةُ وظائفَ ، يتفاوت عطاؤها  الدلالي من عنوان لآخر  اعتبارا للسياق  الذي يسير فيه الشاعر .

فقد تكون للعنوان في النص الأدبي  وظيفة جمالية خاصة وأنه أول شفرة رمزية يلتقي بها  المتلقي  قبل تناول   النص بالقراءة ، وبذلك  يحرص الكاتب  على هذه الوظيفة الجمالية  لأنها أول ما يشد القارىء  للنص أو يبعده عنه .

وقد تكون للعنوان عتبة صريحة  ، تحيل على شعرية صريحة  يقودها وضوح دلالي .. وقد يكون العنوان  صورة مستمدة من خيال استعاري  تغلب عليها رمزية .. فمن أي نوع هو عنوان شاعرنا ؟؟

يتألف عنوان النص من   شبه جملة  تتكون من حرف جر و اسم مجرور ومضاف إليه .. ويبدو أن هذا التركيب الإضافي  أضفى شاعرية  عليه .. حيث تم التقاط  صورة  استعارية  امتزج فيها اللفظ بالمعنى  حتى أن المتلقي  لا يستنتج أية منافرة أو تضاد  تحول دون التوفيق بين عناصر الصورة  الملموسة المادية ( الأريكة ) من جهة  والمعنوية (  الهوى )  من جهة ثانية . ومن جهة ثالثة غياب  الإيحاء بمضمون النص ، وهذا من الأمور  المحببة  في النصوص  الشعرية ..فالتلميج أجمل من التصريح .

كما سبق ذكره ، ليس هناك فصل بين العنوان والعرض  أي القصيدة ، بل هناك اتصال مباشر  ينقلنا إليه الشاعر بضمير المتكلم في الجمع ” نحن”
نتوسد الخواء
ونرحل تباعا
لا نحمل
غير غصة

وهذا الأسلوب من رموز ثقافتنا التي تفضل المشاركة عوض الأنانية ، ف ” إن عمت هانت ”   في  فضاء مترامٍ سماه الشاعر ” الخواء ” أو الفراغ ، ذلك الفضاء الذي يملك فيه الشاعر  فراغا كبيرا يرحل إليه  بمعية  الآخرين تباعا  وهم لا يلوون على شيء  سوى   ” غصة و عيون دامعة ” لتكتمل الصورة بجوانبها الشعورية  والنفسية .

وتتوالي صورة أخرى بفريقين  في تنافر وتباعد ، يعلو صراخهم  للحفاظ على رمق الحياة:

يصرخون
ونصرخ
وهذا الجب
قعره أبعد من الموت

فالجب نكاية عن الماء الذي جعل منه الله كل شيء حي ..ولقد أفلح  الشاعر في اختيار المصطلح .. فعوض  البئر  استعمل الجب .. والجب في اللغة العربية  حفرة غير عميقة  تتجمع فيها المياه الآسنة. ومنها ” الجبَّانة ” التي تعني المقبرة ..

استعمال ”  الجب ”   للدلالة على مصدر مياه ليس عبثا أيضا ، فالمتعة الفنية ها هنا تكمن في الأبعاد الرمزية للجب  وإيحاءاته الحضارية (  فقديما وفي عهد المرابطين  كان ما يسمى ” بالخطارات ” وهي نوع من ” الجِباب “و ” الأجباب ”  من جهة  ،  و العقائدية  في إشارة إلى سورة يوسف عليه السلام ” قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ ” (10) سورة يوسف.

التداخل بين ما هو حضاري وعقائدي من خلال ” لفظ ”   يقوي أداء  وظيفيا جميلا في النص .

يتابع شاعرنا  فيقول :

يوم كانت
القصيدة كالجمر
كان غيري يلتحف
رداء التقية
وفمه الى الجدار
وبيته في زاوية النسيان

تحيلني هذه الفقرة على تصريح للشاعر المغربي الكبير في إحدى حواراته حيث قال  عن زمن مضى ما معناه :

“الشَّمَّة بقطع الأنف ” 

ف” الجمر ”  يمثل دلالات الحر  والعطش والاضطهاد ، يقال سنوات / الرصاص/   ”  سنوات الجمر “

 ويقودنا تأمل الفقرة  لنجد الشاعر   يستدعي مقومات كثيرة بحنكة وخبرة ومهارة  تخص الجانب الروحي  والاجتماعي للإنسان :

رداء التقية* /  فمه الى الجدار*/  إشارة الى قلة الكلام والابتعاد عن المواجهة  / وبيته في زاوية النسيان* / إشارة إلى التهميش .

إن البعد الجمالي في :

صدحنا بالأغنيات
ليموت الخوف
على عتبات الامهات

أيها العائد مني لمنصة
العشق

يؤسسه اتساق وانتظام  وتماسك  شديد   بين الأجزاء المكونة   للأسطر الشعرية  من حيث المعجم  والتركيب والدلالة و الأسلوب  والإيقاع .. تتداخل هذه العناصر كلها وتتكامل  في نسق بنيوي  متكامل ومتلاحم  لتربطنا فيما سيأتي  ب “إحالة”  تشكل رمزا وإشارةً تُلحِق  النص  بدائرة الجودة  الكبيرة  والشاهد في ذلك ، صيغة الأمر في هذه الفقرة والتناص  والتكرار :

كن كما كان بشر الحافي*
كلماته قدت من جمر
والقلب بستان
والقلب بستان.

جاء في ويكيبيديا أن ” بشر الحافي “(179ه ــ 227 ه ) عاصر الدولة العباسية ، سكن بغداد ومات بها  وهو أحد أعلام التصوف ،  كان لا يلبس نعلا بل يمشي حافيا ، ومن المُلَح التي قيلت عنه ، أن جارية صغيرة قالت  عنه ” لو اشترى نعلا بدرهم  لذهب عنه اسم  الحافي “

يعود بنا الشاعر  الى الاقتباس من القرآن الكريم .. فبعد “الجُب ” يستخدم تناصا جميلا  ” قُدت كلماته ”  .. وورد في سورة يوسف ” فلما رأى قميصه قُد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم ” الآية  28  ونقرأ من هذه الإشارة   أن هذا التحول الدلالي  لم يجرد اللفظ من حمولته المعجمية  واستعماله الاصطلاحي  رغم وجه الاختلاف  بين اللفظين  :/ كلماته / بالنسبة  ل بشر الحافي .. و/من دبر/  بالنسبة لسيدنا يوسف .

إن لجوء الشاعر إلى التكرار :

والقلب بستان
والقلب بستان.

استجابة لطاقة شعور هائل  وتفريغ له في الوقت ذاته ، فتكرار الجملة الاسمية  قد لا يقتصر على الشكل  أو مظهر الجمال في الصورة ، بل يمضي بنا الشاعر إلى أبعد وأعمق من ذلك وهو يَتغَيَّ الحياة في كل معانيها . فهو يضيف مكملا  المعنى السابق وبنفس الأسلوب التكراري  :

الطريق الى قلب  الناسك
منعرجات
منعرجات.

المنعرجات اسم مفعول من فعل انعرج  وتعني  / المنعطفات / الملتويات / المائلات

جاء التكرار مرة أخرى  بهذه الصيغة ليؤكد الصورة المركزية  في محاكاة الواقع  ومجاراة بنياته الفكرية  والعقائدية .

يتابع الشاعر قصيدته بهذه الأبيات :

وهذه الارض
بالوعة النسيان

عبروا من خلال احلامنا
وسيجوا الحدائق
بالأوهام
وبعض الأسلاك

تتشكل صورة المكان عن قرب ( وهذه الأرض) عبر الاحساس باستعمال اسم الإشارة للقريب  وعبر مرآة الذات  وغلالة المشاعر (عبروا من خلال أحلامنا)  ومن خلال التنكر  للآخر :

 وسيجوا الحدائق
بالأوهام
وبعض الأسلاك.

وغير خافٍ أن المقام هنا  اتربط بسياق زماني  وحيز مكاني  رسمه الشاعر  حديقة مسيجة  بالأوهام  وبعض الأسلاك .وعدم التصريح  بالفاعل الذي جاء  واوَ جماعةٍ  في :

 / عبروا  /  و /   سيجوا  /  وفي آت  بعد ذلك في فعل / امتصوا / لا يقي  من الألم الذي عانى منه الشاعر و” قومه”  فالآخر امتص الرحيق   في اشارة مجازية الى ” الدم ” .

 قراءة  الفقرة تحجب إلى حد ما الفاعل   لكن ينطبع على كل مسؤول   يستقر بهذه الأرض  المنسية في بالوعة .

امتصوا رحيقنا
جرعة
جرعة
وفتحوا النوافذ.

هنا نجد تمثيلا حيا  لإيقاع منكفىء  على حس وقنوط  وفقدان أمل  ، حيث أن صورة الحياة اليومية  للانسان تتداعى  شيئا فشيئا / جرعة / جرعة .  ليقولوا  ـ ودوما  الفاعل ضمير ــ كما قال الحذَّاء / الاسكافي /  لبشر الحافي لما طلب شراكا لنعله :

ما أكثر كلفتكم  يا فقراء على الناس !

ليطرح بشر النعل ويقسم ألا  يلبس نعلا بعد ذلك اليوم .

وتحيلني هذه العبارة على قول العامة ” شويا ديال النفخة تعيش ”  هههههه

 وبهذه المستملحة  الشعبية أصل إلى نهاية  قراءتي المتواضعة لنص ” على أريكة الهوى ”  هذا النص الذي يعتبر  نقلة أدبية مشتملة على مشاهد بطابع السخرية  من الزمان والمكان  ومن الإنسان من جهة وبطابع الأنفة وعزة النفس  من جهة ثانية .

هو نص مفتوح على كل القراءات ، يتسرب من نفس إلى نفس  ومن مجتمع إلى آخر ، لتظل إمكانية تجدد الحدث الذي نمق النص قائمة .

أسطر النص من أولها إلى آخرها تأملات شاردة  ووجدان شاعر  صِيغَ بصلابة فنية محكمة  حضر فيها انتقاء اللفظ  بأسلوب حكيم   ينزع فيه الشاعر إلى  التصور الواضح حينا وإلى الإيحاء أحايين كثيرة .. وهذا النوع من التصوير  ليس غريبا عن شاعر ينهل من الفكر  الفلسفي و الانساني  بكل مشاربه ، ليكتب لنا قصيدة  بحرقة معنى  ولو من وراء زجاج نافذته  ومعماره الفني التشكيلي .

له مني كل التقدير وكل الاحترام

ذ. الحسن أسيف / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *