هنا القدس
وصل زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية أثناء ثورة البراق وبعدها، إلى قناعة بأن سلطات الانتداب البريطاني تتحيز في سياستها لصالح العصابات الصهيونية، ففي أثناء الثورة التي اندلعت عام 1929 وعرفت بثورة البراق، والمواجهات العنيفة التي تخللتها، ظهر تحيز القوات البريطانية في تعاملها مع الطرفين العرب واليهود، ولم تكن محايدة كما كانت تدعي.
هذا التحيز جعلها عرضة لهجمات رجال المقاومة الفلسطينيين، كما أسقط الفلسطينيون من أوهامهم بأن بريطانيا محايدة وغير متحيزة، فقد امتنعوا عن مواجهة قواتها حتى نشوب ثورة البراق، هذا التحول جاء بعد أن لمسوا وشاهدوا كيف تعاملت القوات البريطانية مع المحتجين العرب بيد من حديد، فكانت تطلق النار عليهم دون تردد، فقتل المئات من بينهم اضافة الى حوالي ثلاثة آلاف تم اعتقالهم ومعاملتهم بقسوة.
شعر العرب بهذا التحيز والمعاملة العنصرية، أيضاً أثناء المحاكمات، فكانت الأحكام الصادرة ضد أفراد العصابات الصهيونية، الذين شاركوا بالمواجهات وقاموا بالاعتداء على المواطنين العرب، مخففة للغاية، لأن كثيرا من القضاة ورجال الشرطة، كانوا من اليهود البريطانيين، كان هذا التحيز تطبيقاً للبنود التي وردت في صك الانتداب، خاصة البند الرابع الذي يشير الى نية بريطانيا القاطعة باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
الأحكام التي صدرت بحق المعتقلين العرب من المناضلين، كانت شديدة ومفرطة من شدة العقوبات التي لم تكن على مقاس التهم، صدرت أيضاً بحق عدد من المتهمين العرب بإعمال العنف أحكام الاعدام، وتم اعدام أول كوكبة من المقاومين الفلسطينيين في سجن عكا، وهم فؤاد حجازي من صفد ومحمد جمجوم وعطا الزير من مدينة الخليل، وقد تحولوا الى رموز وقامات وطنية وخالدين في ذاكرة شعبنا.
بعد اخماد فتيل هذه الثورة، كانت لها تبعات كثيرة، أهمها تدفق موجات من الهجرة اليهودية الى فلسطين، خاصة بعد صعود النازية الى الحكم في المانيا عام 1933، في هذه الفترة دخل الى البلاد بطرق شرعية وغير شرعية حوالي 60 الف يهودي في سنة واحدة.
تعاونت سلطات الانتداب مع الوكالة اليهودية في تدفق أعداد هائلة من المهاجرين أدى إلى تردي الحالة الاقتصادية في البلاد، خاصة في المدن والقرى العربية، اضافة الى ذلك اصدرت سلطات الانتداب قوانين صارمة، جميعها كانت تستهدف المواطنين العرب، هذه الاسباب وغيرها زادت من حالة الاحتقان بين المواطنين الفلسطينيين، فاشتدت المواجهات وزادت هجمات المقاومين الفلسطينيين ضد المستعمرات اليهودية، وضد القوات البريطانية التي كانت تدافع عن هذه المستعمرات.
شعرت بريطانيا بان البلاد تقف على فوهة بركان، إثر بداية ثورة القسام عام 1935، في ظل الأجواء الملتهبة، قررت سلطات الانتداب أن تعمل كل ما بوسعها لتخفيف درجات الاحتقان في نفوس ومشاعر الفلسطينيين، فقررت انشاء محطة الاذاعة الفلسطينية في شهر نيسان “ابريل” سنة 1936، رغبة منها بتهدئة الخواطر، وابعاد الجماهير المناضلة، الثائرة عن اهدافها الرئيسية وهي، ايقاف عملية بيع الاراضي، منع الهجرة، والحفاظ على عروبة فلسطين.
يذكر خليل السكاكيني في مذكراته، أنه من بين الأسباب التي دفعت سلطات الانتداب لإقامة محطة للإذاعة، شعور بريطانيا بكره العرب الفلسطينيين لها، وميلهم لبطل الساعة في ذلك الوقت، ادولف هتلر، من منطلق أن “العور أفضل من العمى”.
كانت بريطانيا تأمل أن تستخدم الاذاعة، كأداة للدعاية تدافع عبر موجاتها عن سياستها، وانه بمقدورها الاستمرار بخداع الفلسطينيين، واعتقدت كما يذكر اكرم زعيتر في مذكراته، انها تستطيع عبر موجات هذه الاذاعة بناء جسور التوافق بين العرب واليهود، وانها سوف تستغل هذه الاذاعة بإقناع العرب بأن اليهود لا ينوون الإساءة لعرب فلسطين.
تم تأسيس الاذاعة، وكانت الاذاعة العربية الأولى في البلاد، وقد خصص لها غرفتين من غرف فندق (بالاس) في شارع مأمن الله في مدينة القدس، وفي أوائل الحرب العالمية الثانية، أي سنة 1939، انتقلت الاذاعة الى دار كبيرة، كانت تحوي تسع غرف للإذاعة، وخمس غرف للأعمال الهندسية، وكانت مدة البرنامج اليومي عند بداية إرسالها عشر ساعات ونصف.
جرى حفل افتتاح دار الاذاعة الفلسطينية في مقرها القديم، بدعوة من الحكومة البريطانية يوم 30 / 3 / 1936، وقد حضر الحفل عدد كبير من وجهاء وأعيان القدس، وباقي المدن الفلسطينية، وعدد من كبار الفنانين والموسيقيين العرب، بالاضافة إلى عدد من كبار الموظفين البريطانيين، وكان أول صوت عربي يصدح في هذه الاذاعة عبر الأثير، هو صوت شاعر فلسطين ابراهيم طوقان 1905-1941، ثم قدم الفنان المصري الشيخ امين حسنين وفرقته بعض المنولوجات والحواريات، ثم جاء دور الموسيقي السوري محمد عبد الكريم، الشهير بأمير البزق، ومما يذكره الموسيقار المؤرخ وعازف العود واصف جوهرية 1897- 1973 في الجزء الثاني من مذكراته (القدس الاحتلالية في المذكرات الجوهرية) أن حفل الافتتاح ضم الكثير من هواة الفن، من أمثال ابراهيم عبد العال، محمد عطية، اسكندر الفلاس، يحيى السعودي، فهد النجار، ميلاد فرح، توفيق جوهرية، وارتين سانتورجي، ومحمد عبد الكريم امير البزق، مشيراً الى أن الموسيقار يحيى اللبابيدي الذي أعطى فريد الأطرش لحن اغنية (يا ريتني طير وأطير حواليك) هو أول من ترأس القسم الفني العربي في الإذاعة.
كانت مدة البرنامج اليومي عند بداية ارسال الاذاعة، عشر ساعات ونصف، مقسمة كما يلي، أربع ساعات ونصف باللغة العربية. ثلاث ساعات ونصف باللغة العبرية، وساعتان ونصف باللغة الانجلينية.
قدر عدد أجهزة الراديو في البلاد عند افتتاح محطة (هنا القدس) ما يقرب من الواحد والعشرين ألفاً، وكانت قوة المحطة 20 كيلو واط وتبث على 8،449 متراً، بما يساوي 668 كيلو سيكل.
تسلم ادارة القسم العربي في اذاعة “هنا القدس” ثلاث شخصيات معروفة، هم ابراهيم طوقان، الشاعر المعروف وشقيق الشاعرة فدوى طوقان، خلفه الشخصية اللبنانية المعروفة عجاج نويهض، محرر مجلة العربي التي كانت تصدر في القدس، وعزمي النشاشيبي أول من حصل على دبلوم الصحافة في انجلترا، وساهم في تحرير جريدة فلسطين باللغة الانجليزية، ومن بين الذين ساهموا في تطوير القسم العربي في اذاعة “هنا القدس”، سعيد العيسى، موسى الدجاني، عبد الكريم الكرمي “أبو سلمى” وخليل السكاكيني، عصام حماد، محمد أديب العامري، راجي صهيون، عبد الحميد ياسين.