سياحة فكرية في ربوع الثقافة المغربية
ما دعاني إلى الكتابة عن المغرب الشقيق إلا رد دين في عنقي لتلك الساعات الجميلة التي قضيتها بين الكتب، فاسحا المجال لعقلي ووجداني للسياحة الفكرية والفنية في ربوع ثقافته، ففيه من سمو الفكرة الفلسفية ما يضاهي قمم الأطلس ومن جميل الإبداع ما يحاكي جمال سهوله ومرابعه حتى إن “طنجة لتبكي على من لم يرها” كما تكرس ذلك في الأمثال عن السياحة، حيث يتناغم الجمال: جمال المكان وجمال الإنسان وجمال الذكريات.
مكان سامق في ساحة الإبداع العربي
وإذا التقى عند قدميه المحيط الأطلسي -بحر الظلمات كما أسماه العرب قديما- والبحر الأبيض -بحر الروم- فقد التقت الثقافات المختلفة على أرضه من أمازيغية وعربية وغربية وسامية، فكان هذا الالتقاء الجغرافي صَنْواً [ونظيراً] للالتقاء الفكري، وفي عنق الحسناء يُستَحسن العقد كما قرر شاعرنا العربي الكبير قديما.
فالمغرب بجدارة وجه شمال إفريقيا المشرق ثقافيا وفكريا واقتصاديا، ولرب زاعم يزعم أن ذلك وليد اليوم أو أنها طفرة من الطفرات كتلك التي تحدث لبعض بلدان العالم اليوم في إفريقيا وآسيا غير أن الذي يتعمق في التاريخ والثقافة المغربية يدرك أن للمغرب جذورا ضاربة في أعماق التاريخ.
فذلك البلد الشقيق الذي نفي إليه المعتمد بن عباد -أحد ملوك الموحدين- من قبل يوسف بن تاشفين، ونظم في سجنه نغمات قصائده الغنائية الرقيقة التي تفيض حزنا ورثاء لمصيره ومصير عائلته، وزاره فيلسوف قرطبة ابن رشد كما زاره ابن باجة صاحب “تدبير المتوحد” وابن طفيل صاحب قصة “حي بن يقظان”، ومنه انطلق رحالة العالم ابن مدينة طنجة ابن بطوطة في تلك الرحلة التاريخية التي خلدت أدب الرحلات العربي ثم ليون الإفريقي، يستحق اليوم أن يجد له مكانا سامقا في ساحة الإبداع العربي بل والريادة، فجامع القرويين في فاس ربما نافس الأزهر يوما، كما كان لابن آجروم قصب السبق في تقعيد النحو العربي.
يهود في رحاب مؤسسة الإسلام
هل يمكن القول إن المغرب هو الوارث الشرعي للإرث الأندلسي بعد نزوح اليهود والمسلمين من الأندلس بعد سقوط غرناطة؟ من المفيد القول إن السياسة المغربية في تعاملها مع اليهود اتسمت بالحكمة والرشد، فهؤلاء اليهود المضطهدون في الأندلس وجدوا الترحاب والمعاملة الحسنة من قبل المغاربة، فمارسوا حياتهم دون إبهاض أو تضييق ومازالوا كذلك إلى اليوم، وهي بذلك صورة ناطقة للتعايش السلمي بين الأجناس في رحاب مؤسسة الإسلام.
وكان لهؤلاء اليهود إسهامهم في الثقافة والاقتصاد في المغرب إلى الحد الذي يرفض فيه الآلآف الهجرة إلى إسرائيل مادام وطنهم المغرب يعيشون فيه بكل كرامة ومساواة وحرية.
إنها صورة أخرى للحياة في رحاب الأندلس أيام الحكم الإسلامي وذاك ما دعا آبا إيبان وزير خارجية إسرائيل السابق إلى القول: “إن اليهود عاشوا بكل كرامة وحرية مرتين في التاريخ، مرة مع المسلمين في الأندلس واليوم في أمريكا”.
إذا كان المغرب مصهرا للتلاقح الثقافي العربي والأمازيغي والأندلسي فشأنه شأن الضوء تراه أبيض لكنه في الحقيقة سبعة ألوان، ومن المفيد القول إن النظام السياسي حافظ على الوزن الثقافي للمغرب وشجع الثقافة ودعمها وتعهدها بالرعاية لذا وصل المغرب اليوم إلى المستوى الفكري والثقافي الحقيق بكل تقدير واعتبار.
المركزية المشرقية
من المفيد هنا الإشارة إلى تلك المماحكات والخصومات بين المشرق والمغرب فالمركزية المشرقية ترى في المغرب العربي كم الثوب تارة وذيل الطائر كرة أخرى، أي تسمه بسيماء التبعية وتنكر عليه الفرادة والإبداع والخصوصية وينسحب هذا على المغرب كما ينسحب على الأندلس عامة.
فمما يروى أن ابن عبد ربه لما ألف كتابه الشهير “العقد الفريد” وحذا فيه حذو التأليف في المشرق، فحشده بأشعار المشارقة وخطبهم فلما تأمله الأديب الصاحب ابن عباد قال جملته المشهورة: “ظننا فيه شيئا من أخبار بلادهم فإذا هو أخبار بلادنا، بضاعتنا ردت إلينا”. إن هذا المنحى من ابن عبد ربه يعني اقتناع المغاربة -ونحن هنا نقصد المغرب ونضيف إليه الأندلس- بأن الشهرة وافتكاك المكانة الأدبية والجدارة لا تتحقق إلا بتقليد المشرق والسير على هداه.
غير أن هذا لم يدم قَطّ، فالجغرافيا وتنوعها والتماس مع أوروبا والجذر الأمازيغي سرعان ماوسم الشخصية المغربية بخصوصياتها الأمازيغية والإفريقية والمتوسطية في تفاعلها مع الثقافة العربية الإسلامية.
لعل الفلسفة أول ميدان لازدهار الفكر في المغرب ولعلها وريثة للفلسفة الأندلسية منذ أيام ابن باجة وابن طفيل وابن رشد، فليس من البدع أن ترى محمد عزيز الحبابي يؤسس مذهب الشخصانية ولو تحامل عليه طه حسين وادعى عدم فهم مذهبه، ثم محمد عابد الجابري في نقده للعقل العربي وما أثاره من توابع وزوابع في تقسيمه العقل العربي إلى عقل عرفاني وعقل برهاني وكان العرفان قسمة المشرق بينما البرهان هو قسمة المغرب (الأندلس)، ورأى بعضهم أنها قسمة ضيزى كما ذهب إلى ذلك جورج طرابيشي.
ثم نجد الآن اسما لامعا هو طه عبد الرحمن الفيلسوف الصوفي الذي له قدرة فائقة في نحت المصطلحات العربية الخالصة، وكأنه يسعى تطبيقيا لتأسيس فلسفة عربية لا تتنكر للوحي ولا تخاصم الفلسفة الغربية ولكنها لا تعتبر نفسها مجرد تلميذ لها أو تابع في أحسن الأحوال على الرغم من تهكم عبد الله العروي من مذهب طه عبد الرحمن وتسميته بالإشارة والكناية صاحب مذهب “اعلم أن”.
ولا يمكن نكران جهود عبد الله العروي وإسهاماته الفكرية والفلسفية ذات الشأن الوطني والقومي وكم كانت سعادةً غامرة أن يكرس كرسي عبد الله العروي هذه الأيام في الجامعة المغربية، وهو ما يؤكد القيمة التي تعطى للمثقف المغربي من لدن الحاكم السياسي والمواطن المغربي، ولو أن عبد الله العروي في كثير من طروحاته ينتهي إلى كثير من الإجحاف في الحق الثقافي العربي، ولعل كثيرا من طروحاته تجاوزها الزمن وأثبت عدم صلاحيتها، ولكن لا ننكر جهود العروي في محاولة النهضة بالعقل العربي والدخول إلى معترك التاريخ من جديد من باب الحداثة الفكرية أولا.
قصب السبق في قضايا المرأة
في قضايا المرأة -وللمغرب قصب السبق في الدفاع عن حقوق المرأة ومساهماتها في التنمية الاجتماعية والسياسية والفكرية- لا يمكن القفز على جهود فاطمة المرنيسي وفي هذا هي تشبه نوال السعداوي وتختلف عنها كثيرا.
فهي أكاديمية في مجال عملها الذي يتسم بالتنظير والحكمة والموضوعية والروح الإنسانية منذ كتابها البديع “الجنس كهندسة اجتماعية” الذي فتحت فيه المجال أمام معاناة الأنوثة في المغرب في مجتمع ذكوري يلوي عنق النص لصالح مركزية الرجل وهامشية المرأة ودفاعا عن مصالحه الاستراتيجية، بدراسات تتلمس علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ والفقه، فهي بحق رائدة الدراسات النسوية في المغرب العربي.
وثبة فكرية متمردة على الطابع المدرسي
كما عرف الأدب المغربي الحديث منذ القرن العشرين وثبة فكرية تتمرد على الطابع المدرسي الذي يحتفي بما هو مشرقي ويتمرد على مقولة الصاحب ابن عباد بضاعتنا ردت إلينا، فالبضاعة المغربية ليست مشرقية البتة إنها إبداع مغربي فيه خصوصية الريف المغربي وجبال الأطلس، إنها حصيلة التلاقح العربي الأمازيغي في كدحه من أجل غد أفضل أمام كافة المثبطات، وللمغربي الحلم الذي ككل إنسان، وله خصوصياته التي تميزه عن كل إنسان.