قال الناقد الذرائعي عبد الرحمان الصوفي:
قف!!!!
النشر كل دقيقة وحين هو حكم بالإعدام على موهبة المبدع، تصبح منشوراته ملحا ترمى في أعين المعجبين سابقا…
وأنا أتجول كعادتي بين مختلف المنشورات على أعمدة الفيس بوك بحثا عن الجديد، فاستهجن هذا وأستقبحه، وأستحسن ذاك وأستعذبه، أعلق على هذا وأؤشر بإعجاب على ذاك، قبل أن أترك الفيس وأعود إلى الكتابة أو القراءة.
لكن، في جولتي هذه استوقفني طويلا منشور للأستاذ الناقد الذرائعي الأستاذ عبد الرحمان الصوفي، فتمعنت أفكاره جيدا، وجدتها لا تنطق عن هوى، وتتعلق فكرة المنشور بمعضلة أدبية كبيرة أصبحنا نعيشها في هذا العصر الأغبر، وكان منشور الناقد مكتوبا بالخط المضغوط، ونحن -لا محالة- نعرف جيدا ما لهذا النوع من الكتابة بهذه الخطوط من دلالات ومعان، خصوصا إذا كانت بقلم مبدع متمكن ومتمرس في مجال النقد والذرائعي منه بصفة خاصة، يقول الناقد:
-قف!! النشر كل دقيقة وحين هو حكم بالإعدام على موهبة المبدع، تصبح منشوراته ملحا ترمى في أعين المعجبين سابقا…
يستوقفنا الناقد، وكأنه يدعونا لإمعان النظر طويلا في محتوى هذه الفكرة، لما لها من أهمية في مجال الإبداع في جميع الأجناس الأدبية، حيث ركز على المبالغة والتسرع في النشر لأن هذه الطريقة تسئ للإبداع أكثر مما تنفعه، فالكاتب يحكم من خلالها على إبداعه بالإعدام، سواء كان ذلك بقصد أو غير قصد، فنصه يولد ميتا، أو يخرجه إلى الوجود خديجا دون اكتمال وبعملية قهرية، ولعل ذلك يعود إلى سبب بسيط جدا: فالكاتب يكتم أنفاس نصه، يخنقه كالوردة قبل أن تتفتح، وذلك بحرقه كل تلك المراحل الضرورية التي يمر منها النص قبل ميلاده، إذ لا يترك له وقتا كافيا ليختمر وينصهر في بوثقة ما تختزنه الذاكرة من نصوص أخرى ضاربة في عمق تلك الترسبات المعرفية من التاريخ والإبداع البشري، فالنص يبدأ في التكون منذ سقوطه فكرة بسيطة في الذاكرة كنطفة ماء مهين تسقط في رحم المرأة، وقد لا نبالغ إذا قلنا بأن النص في الذاكرة أشبه بالجنين في رحم المرأة، فهو أيضا يكون في حاجة ماسة إلى سقوط، ثم نمو، ثم اكتمال، ثم ميلاد، وأظن أنه لا بد من أن يمر من مراحل متنوعة قبل أن يصل إلى مرحلة الاكتمال (تجاوزا) شأنه في ذلك شأن كل كائن حي يتغذى وينمو ويحيى، فلا إبداع بلا مشقة، وبلا مخاض عسير، قبل أن يخرج باقات ورود رائعة تختال مزهوة بجمالها في مزهرية الإبداع الراقي، فتجتاح مدى القراء كما تشكل مادة دسمة للغة اللغة.
فعباقرة الرواية، قد يقل رصيدهم في الإنتاج، لكن هذا لا ينفي عنهم العبقرية أبدا، لأن المنطق يفرض الاعتبار بالكيف لا بالكم، فهناك من لا يتجاوز في رصيده السردي روايات تعد على رؤوس الأصابع، ورغم ذلك فاحت روائح إبداعاتهم فحطموا الموانع الجغرافية، وكسروا حدود الزمان والمكان، وخلدهم هذا الكم القليل من إنتاجاتهم الإبداعية، ويمكن أن نعطي مثالا حيا على ذلك من الأدب الفرنسي، فرواية (الأحمر والأسود (le rouge et le noir جعلت من مبدعها (ستاندال) علامة عصره في الفن الروائي، إن لم نقل علامة كل العصور، فاكتسح العالمية بكيفه لا بكمه، بروايته الواحدة لا بعدد رواياته.
أعتقد أن الكاتب الذي يتسرع ويبالغ في النشر دون مراعاة لمقومات العملية الإبداعية، يكون في أمس الحاجة إلى الاقتداء بالظبية التي لا تترك وليدها حرا طليقا في الغابة إلا بعد تنظيفه ولعق مشيمته، وما أكثر النصوص التي ترمى في وجه للقارئ بكل شوائبها وأخطائها وبمشيمتها.
فالتسرع في النشر يقتل الإبداع، ويضيع على الكاتب فرصة إعادة قراءة ما خطه قلمه وما جادت به قريحته، هذه القراءات التي ربما ستزيد النص بريقا ولمعانا، شريطة أن تكون قراءات ناقدة فاحصة لمحتويات ما سينشر، وهذه القراءات لا تنتهي ولا يتخلص منها النص إلا بوفاة الكاتب، وأقصد هنا أن يتحول الكاتب ناقدا. ففي كل قراءة، تتحرر الذاكرة من شحها وعنادها، فيكون الانفجار العظيم: إبداع جديد بروعة العبارة وجمال التركيب ودقة التعبير وشرف المعنى، إبداع يمكن أن يؤهل هذا النص لكسر حدود الزمان والمكان والسير نحو الشهرة والعالمية، وهذا لن يكون بعيدا أو مستحيلا إذا توفرت إرادة الكاتب وإصراره على إبداع الجيد والأجود.
فما الفائدة من النشر، وأنت لم تصل بنصك إلى مرحلة النضج والاكتمال بعد؟ ولنا في شعراء الحوليات خير نموذج يمكن أن نقتدي به لتفادي الوقوع في مطبات التسرع في النشر، فلولا هذا التأني والرغبة في إنتاج الأروع والأجود لما نحت هذه النصوص الشعرية منحى العالمية، وتجاوزت حدود الزمان والمكان.
فالنص بمجرد نشره يصبح ملكا للقارئ، فيحسب للكاتب فيبصم له بالعشرة أو يحسب عليه فيرمى في مزبلة الأدب، سواء كان هذا النشر إلكترونياً أو كان ورقيا، فلا عودة بعد أن يخرم المقص الثوب وتقع الفأس في الرأس، فتختلف طريقة الوقوع في المطبة وبالتالي تختلف ردود الأفعال. وقد يكون هذا التسرع في النشر من أهم أسباب عزوف القارئ عن قراءة النصوص لأنه -حتما- ينتظر من كاتبه الجودة في كيف المنشورات لا في كمها، الجودة في اللغة وسلامتها من الأخطاء، وروعة التركيب الذي يشكل ذلك الكم الهائل من المقولات في فضاء لغوي فوضوي لم يتشكل بعد، ويخضع في تشكيله لظروف المتكلم، ومدى قدراته على التشكيل. وشرف المعنى وروعة هذه الفكرة أو تلك لن تنزل عليك وحيا من السماء، وإنما تنتظر منك أن تجد وتكد، فتعطيها كلك لتعطيك بعضها ولو بعد حين.
ولعل أهم عملية يهملها الناشر المتسرع الذي يتعجل التخلص من نصه، هي عملية التنقيح التي تعتبر إكسير الحياة لأي نص إبداعي كيفما كان نوعه، فالمهارة في (الرتوش) تخلق من اللوحة الزيتية تحفة فنية يسيل لها لعاب المتذوقين، والرتوش في النص الأدبي هوالتنقيح، هوتشذيب جوانب الجملة المترهلة وتنقيتها من الشوائب التي تعيبها، وتجعل بريقها باهتا في عيني القارئ.
نعرف أن الجملة عصية منيعة متمنعة لا يستقيم حالها إلا بعد خضوعها للتهذيب والتشذيب وإزالة الشوائب والزوائد والوصف المجاني، وتجاوز التراكيب المباشرة التي لا تساهم في خلق معان ثوان، وتكتفي بالسطحي من بنيات النص، ولا تبدع صورة جميلة تدغدغ الأذواق، لأن جماليات النص جزء من كثرة الاهتمام بما ذكر، وهذا ليس بالأمر الهين بالطبع، لأنه يتطلب جهدا كبيرا وأوقاتا تختلف من حيث الطول أو القصر حسب قابلية الذاكرة لتحرير مخزونها المعرفي والفني. وما أقوله عن الجملة ينسحب تلقائيا على جودة الفكرة، لأن العناية بالتركيب اللفظي -حتما- سيجلب الفكرة الجيدة وشرف المعنى سواء كان ذلك في سياق الجملة أو في سياق النص العام.
ولعمري إن عدم الاهتمام بالتنقيح الذي يستوجب قراءات جيدة متعددة هو سبب ضحالة وفقر ما ينشر من إبداعات سواء في مجال الشعر الذي لا يحتمل الخطأ، أو في مجال السرد، أو في كتابة أي نص كيفما كان جنسه. فهناك من كبار الكتاب من كان يشطب الفصل كاملا من روايته، أويشطب الرواية بأكملها وينطلق من نقطة الصفر، فقط لأنه أثناء تنقيحها وجد ما لم يرقه، وما لا يرقى لذوق قارئه المفترض. والذي لا تروقه كتاباته لا يمكنها أن تروق قراءه، هذا المتعطش لتلك المسافة بينه وبين النص، لتفتح له مجال التفسير والتأويل وتفكيك الشفرات وتحليل الرموز. فالقارئ لا يقل أهمية عن الكاتب في مجال الإبداع، فهوتبعا لنظرته الفلسفية في الحياة وخلفيته الثقافية، يبدع بدوره في إعادة إنتاج النص من خلال المشاركة في هدمه وإعادة بنائه، خصوصا إذا كان الكاتب قادرا على نقله من منطقة السلب إلى منطقة الإيجاب، فالقارئ ناقد بالضرورة ما دام يستحسن ويستقبح، يؤثر ويتأثر، فلا يمكن -أبدا- أن نحشو دماغه بكل ما هب وهان من أفكار.
أنطلق من تجربتي الشخصية في كتاباتي، فقد عدت إلى منشوراتي القديمة، فوجدتني لم أنشر شيئا يستحق النشر، سواء من حيث الأفكار أو اللغة أوالتركيب وما شابه ذلك، فبدأت أعيد قراءة ما كتبت مستغلا وقتي الكافي لتنقيحها من جديد وإعادة نشرها، وفي نيتي أنها ربما تروق القارئ أو لا تروقه.
أما التسرع في النشر الورقي فأرى -شخصيا- أنه أكبر مشكلة سنعاني منها، إذا لم نتخذ جميع الاحتياطات الضرورية، حتى لا ندنس تاريخنا الإبداعي بهكذا نصوص فجة ضحلة تافهة وفقيرة لغة وأفكارا.
إن ما أشار إليه الناقد الذرائعي عبد الرحمان الصوفي، سبق أن كتبت في مجاله مقالة طويلة تتعلق بضرورة التنقيح وعدم التسرع في النشر، فمن حين لآخر يجب على الكاتب أن يعيد النظر في ما يكتب بعين ناقد لا تربطه بنصه روابط أبوة، ليقف على الهفوات والأخطاء التي يقع فيها، ولا عيب في إشراك من هم أوفر منا حظا في المعرفة لأن ذلك لا ينقص من قيمة الكاتب شيئا بل يرفعه درجات، فقد تعودنا أن نقول: إن الجمل يرى سنام غيره ولا يرى سنامه، فنحن أيضا قد نرى أخطاء غيرنا في حين تغيب عنا أخطاؤنا، ويشرفنا كثيرا أن نستشير من يساعدنا على التنقيح إذا كانت غايتنا المثلى هي الارتقاء بحظنا من الكتابة.
إن القراءة حربائية، قزحية الألوان تختلف من شعاع لآخر، وهي لا تستقر على حال، وكلما تعددت القراءات، كلما كان التنقيح أجود وأجدى وأنفع، وهو عملية ترافق النص الإبداعي مدى حياة كاتبه.
ولكأني ببعض الكتاب يضيقون درعا بنصوصهم، فتشكل حملا ثقيلا عليهم، فيتعجلون التخلص منها، وبأسرع وقت ممكن، فيكون مفرهم منها هو هذا النشر الغث التافه الذي لا يقدم ولا يؤخر في خدمة النص الإبداعي بصفة عامة.
وأعتقد أن كتابة نص أسهل وأخف من تنقيحه، لأن الكتابة تهتم بحصر تلك الأفكار الزئبقية التي تتسرب من بين يديك في حالة عدم محاصرتها تدوينا، أو تكون عبارة عن تصميم للنص، وتكون عملية إعادة القراءة مرات عدة كفيلة بمنحك فرصة التنقيح وتهذيب ما كتبت (Finition)، فالزهور التي تنبت في البستان بشكل عشوائي لا يمكنها أن تسر ناظرا أو تستفز ذوقا أو تروق متجولا، وهذا ينطبق على تلك المنشورات العشوائية التي لا تحترم أدنى شروط النشر، إذ تقرأ في أحيان كثيرة النص فتشعر بنوع من الاشمئزاز لما يشوبه من نذوب تخدش جماله. وتطفئ شعلته، وكثيرا ما نصادف نصوصا غاية في الروعة والجمال لكنها تفتقر إلى التنقيح، فتشعر أن الكاتب نشر نصه على عجل، وكأن همه كان هو أن يرميه في وجه القارئ كيفما اتفق.
أظن أن كم النشر ما كان يوما مقياسا لقدرة الكاتب على إبداع متميز يستهوي الأذواق ويأخذ بالألباب، وهناك عامل آخر يساهم بشكل أو بآخر في تدني مستوى العمل الإبداعي بل يعجل بقتله، وهو العزوف عن القراءة والاهتمام بالكتابة، فتكون الذاكرة فارغة كالرحى تدور في الفراغ، فلا تطحن إلا الفراغ، أعني أن هناك من الكتاب من يكرس وقته كله للكتابة، ويهمل الجانب القرائي، جانب التزود بالعدة والعتاد، وهذا الجانب هو الذي يرتكز عليه -أساسا- كل إبداع، لأن فراغ النص من فراغ الذاكرة، وصدق من قال بأن فاقد الشئ لا يعطيه، فكيف لكاتب فارغ على المستوى المعرفي أن يكتب نصا جيدا يجلب القارئ كنحلة يجذبها جيد الرحيق؟
النص الإبداعي بصفة عامة، كائن حي فاعل ومتفاعل ومنفعل، مؤثر ومتأثر، متعالق مع ما سبقه من علوم وإبداعات إنسانية من هوراس وهوميروس إلى درويش وأدونيس، من الأسطورة والملحمة إلى القصة الومضة. إن النص المتميز والجيد هو – كما يقول النقاد- نسيج من مجموعة من نصوص أخرى، تصهرها ذاكرة المبدع، كريشة رسام ماهر تخلط الألوان، فيخرج الرسام في النهاية بلونه الخاص، كذلك المبدع يخرج بنصه المتميز الذي يحمل بصمته الخاصة، ولنا في قصة أبي نواس وأستاذه خلف خير مثال، إذ استأذنه في قول الشعر فاشترط عليه أن يحفظ كما هائلا من الأشعار، وعندما حفظها أمره أن ينسى ما حفظ، وقتذاك يمكنه أن يأذن له بقول الشعر.
والمصيبة العظمى التي أصبحنا نعاني منها في هذا العصر والتي ساهمت بشكل واضح وصريح في تدني المستوى الإبداعي، هو عامل السرعة التي تكاد تكسر الرقبة، فالقارئ لم يعد له ذلك النفس الطويل ليقرأ الأجود ويستمتع به، ربما لأنه لم يتمرس على قراءة الكتاب، فأصبح يميل إلى تلك المنشورات مهما كانت تافهة، وهذا بطبيعة الحال يدفع ببعض الكتاب الذين لا يحترمون الإبداع، أن يسايروا -مرغمين- ركب متطلبات القارئ السريع للنص السريع (الساندويتشات) فيكتب الكاتب نزولا عند رغبته النص السريع، وينشر هذا الكم الهائل من المنشورات السريعة. أصبح القارئ يعزف عن قراءة أجود النصوص بدعوى طولها، فينجذب لتلك النصوص القصيرة جدا حتى لو كانت تافهة ولا ترقى إلى مستوى الإبداع. والأغرب في ذلك أن النصوص السردية أصبحت تخضع لعامل التحجيم وعدد الكلمات، والاختصار رأفة ورحمة بهذا القارئ الذي لا يريد ان يتعب نفسه في هكذا شقيقة وصداع الرأس. لكني -شخصيا- أرى أن الكاتب الذي يحترم الإبداع، لا ينساق وراء متطلبات قارئ كسول، بل عليه أن يستبعد التفكير فيه أصلا أثناء الكتابة. سيأتي يوم من الأيام، فتقرأ نصوصه، وربما تنحو منحى العالمية، فعالمية رواية دون كيشوت جاءت بعد فترة طويلة من الزمن لأنها وجدت من يحسن قراءتها (فلكل زرع كياله) كما نقول في عاميتنا، أما الذي يكتب وينشر نزولا عند رغبة طينة معينة من القراء، فإنه لا يمكنه إطلاقا أن يدخل الإبداع من أبوابه الواسعة.
ولعل ما طرحه الناقد عبد الرحمان الصوفي في منشوره هذا يستوجب دراسات وافية ومتأنية، ومن الأفضل أن تكون من طرف هؤلاء النقاد الذين يقبعون في أبراجهم العاجية.