وأقعقع له بالشنان: قصة قصيرة / بقلم: ذ. صالح هشام / المغرب


(من وحي شغب الطفولة)
-أنا حمزة، أنا الأمير، أنا عاشق السيف والفرس، أنا السالب وردة العرب، وأنا مسلوبها، أليس كذلك يا صبيي… يا عمر… يا عيار؟
وألوح بعصاي في الفضاء، وأنا أمتطي عمودا كان دعامة بيتنا القديم، وأحلق كطائر مذعور في فراغ ممرات بستان الصبار الضيقة، دون أن أعير أشواكه المسننة اهتماما، وأتغنى بنتف من أشعار (مهردكار) ذات تحرش بفارس العرب.
فتنت بالفرس والفارس حد الجنون، ومن فروسيته أستلهم فروسيتي: سيفه عصاي، وفرسه عمودي، كيف لا؟ وقد خبرت روائع سيرته الشعبية، أتقمص شخصيته، وهو يراقص مقبض سيفه البتار في قبضته الفولاذية، و يشرح جثث الأبطال شرائح لحم مقدد. وبين سطور أشعاره، أتلصص عليه، وهو يتغزل بمفاتن معشوقته الحسناء (مهردكار) التي اختارها ملكة قلبه دون بنت أسطون، وأنا أقتدي في ذلك بالظريف عمر العيار.
لذلك كنت تراني-كل خميس أسود- أقرفص على قدمين متورمتين، فعشرات الجلدات لا تشفي غليل ذلك الأرعن المنحوس. أ أحفظ سيرة حمزة، وأتقن التلصص عليه في أشعار معشوقته، وأعجز عن حفظ عملية ضرب، أو قصيدة من اختيار تافه بذوق ذلك التافه؟ فماذا تساوي تفاهاته أمام تحليقي عقابا أو صقرا أو نسرا فوق جثث أبطال أشداء فتك بهم سيف حمزة العرب في ساحة الوغى؟ فهذا المنحوس المتعوس وكل مدرسته لا يساويان نتفة من أشعار بنت الأكابر (مهردكار)، أو طرافة من طرائف خفيف الظل عمر العيار.
لذلك كنت ترى جسدي النحيل – دوما – مطرزا بندوب تأبى أن تندمل، فعصا ذلك المعلم الأرعن تخضب بناني، وبلا انقطاع. ربما لأنه لم يكن يعرف عن حمزة شيئا، كالرحى يطحن ما أمر بتمريره إلى عقولنا الصغيرة، وكالببغاء يردد على مسامعنا إملاءاتهم الرعناء.
في كل حصة، يرشحني – دون خجل – للرسوب، فيسخر مني أغبياؤه لأنهم من فصيلته، فهو الغبي بوزرة بيضاء مكوية، وهم بأقدام حافية متشققة، أسطوانته صدئة، لا يتوانى في ترديدها على مسمعي في كل لحظة وحين:
-هذا العام، سيفقص بيضك يا خنزير البرك الموحلة، فوق ذلك الكرسي الذي تأكل منك مساميره الصدئة.
لكن، ها أنا -اليوم – أغرز أصابعي في عينيه الذابلتين، وأفند كل مزاعمه، وبفخر أرفع رأس أبي عاليا بين أقرانه، وأنتزع – قهرا- الزغرودة من أفواه متطفلات حينا. ها أنا – اليوم- أتوج رأس القائمة، وأخربش بأظافري حكمته الغبية المنقوشة على عصاه الغليظة (العصا لمن عصا)، فأضمد جراحا باتت عميقة الغور في كل أنحاء جسدي النحيل.
نجاح باهر لم أذق طعمه منذ سنتين، أعود منتشيا به، فألوح بعصاي وأجري كالمجنون في متاهات بستان الصبار كعادتي. يعود أبي هذا اليوم مبكرا من السوق، يجر حلمي وراءه، كيف لا وقد حققت له حلمه، وأخرست أفواه الجيران وسكان قريتنا؟
يعود يجر جحشا كوحش بري، لونه داكن، لكنه يميل إلى الرمادي، أشبه في قوامه الممشوق بأبجر عنترة العبسي، أو بفرس فارس بادية الحجاز، أرمقه بإعجاب كبير، ويخترقني بعينين واسعتين متوجستين. يشدني أبي من يدي، يضغط بعنف على معصمي، وبابتسامة عريضة لا تخلو من رضى يقول:
-خذه يا بطل، إنه لك، ومن هذا الجحش الجميل إلى حصان أدهم إن شاء الله.
ودون أن أشكره أو ألتفت إليه، وبشغف كبير أحكم قبضتي على هذا الوحش البري، وأنا أتمتم كالأحمق:
-هذا حصاني، فأنا جدير به، وبالقوة انتزعته منك يا أبي، ومن ذلك المعلم المنحوس.
أقاوم فرحة عارمة، لم يكن قلبي الصغير قادرا على استيعابها: أبي يفي بوعده، ويتوج فروسيتي بهذا الأشهب الأغن كما توجت رأسه بنجاحي. و أملي أن لا يكون جامحا جموحا عنيدا، وأن يكون مطواعا، لتكتمل فرحتي وتتحقق أحلامي.
أدور حوله، أتفحصه جيدا، فأفتتن به، وأتقرب منه لأكسب ثقته، يلصق عينيه الكبيرتين بالأرض، ويضغط على ذيله بين فخذيه، ويبسط أذنيه خلف جمجمته المستطيلة كرأس تنين صيني، فأتوجس خوفا من ردة فعله، أقترب منه كثيرا، أتلمس فروته، أجدها حريرية ناعمة الملمس، فلا يبدي حراكا، أطمئن إليه، ويطمئن إلى رفقتي، وقبل أن أمتطيه تعن لي فكرة جهنمية خطيرة، لكنها غبية:
أن أضع بين فخذه شنانا، أربطه على ظهره، فقعقة الشنان تفزع قطعان الخراف، وهو لن يكون أصلب منها قلبا وأقوى عمودا، فعندما يتحرك الشنان يفزع المسكين ويرتعب، فتتحسن مردوديته عدوا وقفزا، ولم لا؟ فهو لا يقل أهمية عن فرس فارس العرب الذي كان أسرع منه البرق.
علبة سردين قديمة أحشوها بحفنة حصيات، أعيد إغلاقها بإحكام، وألصقها ببطن جحشي بخيوط أمررها تحت بطنه ثم أشدها على ظهره، فيصبح بجاسوسي جاهزا للتحليق بي في متاهات حلمي الأبله:
كل حركة من حركاته تقعقع الشنان، يتحول – بقدرة قادر- طائرة بأربع محركات نفاثة، فيطوي البيد والبراري تحت سنابكه طيا.
أبسمل، وبحذر شديد، أقفز كالمارد فوق ظهره الأملس بدون سرج ولا لجام، تتحرك الحصيات في قلب علبة السردين، يصاب المسكين بنوبة رعب شديدة، يرفع قائمتيه الأماميتين إلى أعلى حتى يستقيم واقفا ويعانق الفضاء، يقفز يمنة ويسرة، وينط كالهر في كل الاتجاهات، وأنا أتمسك بقوة بشعيرات عنقه التي لم تطل بعد.
يدور حول نفسه كخذروف، كقط يريد قضم ذيله، فأمعن في شد شعيرات عنقه شدا كرعاة البقر، وفكرة سقوطي نحو الهاوية تتملكني، فيزداد قلبي انتفاخا.
تزداد قعقة (الشنان) حدة، تتوتر أعصاب جحشي، فيبحث عن منفذ يخلصه من حملي الثقيل وغير المرغوب فيه، وأنا على ظهره أتأرجح، وأميل حيث يميل، لكني به عالق كالعلقة. ينفلت كالرصاصة الطائشة قاصدا أضيق ممرات بستان الصبار الكثيف، وبسرعته الجنونية كوميض البرق يسد أمامي كل أبواب النجاة بجلدي. يختار هذا الغبي/ الذكي أضيق المسالك وأكثرها أشواكا، وفي نيته الحمارية: أن يلحق بجسمي أضرارا جسيمة.
أشعر بوخز الأشواك في جنباتي كالإبر أو لسعات العقارب، أرخي – مضطرا- شعيراته، علي أخلص نفسي من هذه النار الحمراء، فتتلقفني الأرض دودة بلا حراك، مغشيا علي، يتبخر حلمي بين الأشواك، وينتقم مني جحشي شر انتقام، و تبتلعه كالشبح كثافة بستان الصبار، وهو يعدو… يعدو… فارا بجلده كفأر مذعور.
تنزل الأصوات على مسمعي نشازا ثقيلة، تبدو بعيدة جدا كتردد الصدى في قاع بئر عميق، لكني بعد مشقة وجهد كبير أميز منها صوتا، أظنه مألوفا: إنه صوت أمي، ترغي وتزبد وتولول، وهي منهمكة في استئصال تلك الإبر من جسدي، أحبس – على مضض- أنفاسي لاجتناب صفعاتها الغاضبة، وكل شوكة تنتزعها من جسدي النحيل بأنات مكتومة، وتأوهات آلام حادة لا تطاق.
وفي أوج غضبها، تكيل لأبي الشتائم بعدما انسحب من هذا المشهد المأساوي، وهو يغالب دموع ضحكاته الهستيرية، ويخبط الأرض بحذائه الثقيل. تنفض أمي يديها مني، وتتركني أتجرع مرارة آلامي وحدي، وهي تردد على مسمعي بغضب شديد:
-لأنزع كل هذه الأشواك من جسدك العفن، أحتاج إلى أكثر من جلسة يا فارس الزمان، يا حمزة، يا بهلوان.

ذ. صالح هشام / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *