ذات خريف، تشابهت الأيام حتى أمرَ القمر بدوام الجزر؛ خرج حاملا خيمته، و مرسمه، و إبريق قهوة، و كتاب، و صنارة صيد، و رزمة أحلام.
علق على باب خيمته يافطة مكتوب عليها: ـ هذا قصري، فاجتنبوه… و لكم دونه الأرض كلها.
و تحمّل إطار مرسمه وِزْر مرآة فاضحة لكينونته البئيسة: هي البساطة كما نحتتها الطبيعة حتى قبل قدومه للدنيا، و لو كره كارل ماركس و ماو تسي تونغ و من تبعهم إلى يوم الدين.
أما إبريق قهوته الذي اقتناه بثمن زهيد من بائع التحف القديمة في السوق السوداء، فكان يشبه فانوس علاء الدين في ألف ليلة و ليلة، غير أن عفريت هذا الإبريق تمرّغ في كثبان بُنّ أسود حتى فقد قِبلته و ما عاد يخرج من قمقمه، كأن سليمان سجنه إلى أبد الدهر، حتى تنتحر الأحلام، و تخاريف أماني الخيال.
كلّ من عاشره عن قرب أو فضولا عن بعد، عرف بقصة كتابه: ألّفهُ حسب قوله منذ ما يناهز عشر سنوات، و عرضه على أكثر من دار نشر؛ لا أحد يرغب في طبع سيرة ذاتية لشخص تافه، و إن كان يدعي ربما صدقا أنه يحكي في كتابه قصة اختراعه لترياق ضد النفاق و الكراهية و الحقد، عجز عن اختراعه سيغموند فرويد و حاشيته من العلماء الأفذاذ.
مرة واحدة فقط، و استثناء، علِقت سمكة بصنارته، ربما شفقة عليه… بلغته سلام حيتان ضخمة، و رسالة: أن لا يتجرأ مجددا الصيد في المياه العكرة، أن لا يلعب على شط بحر الكبار، و يكتفي بكتابة قصائد لحبيبة وهمية كما كان مصير سيزيف معلقا بصخرة.
سأله أحد الفضوليين الظرفاء يوما عن محتوى رزمة يحزمها كما الكيس من قماش على ظهره… أجاب كمن يبوح بسر خطير: ـ هي رزمة أحلامي… يوما ما سأضعها على عتبة مسجد كما ترك جون جاك روسو “اعترافاته” على باب كنيسة… و ربما بعد قرن أو أكثر سيحقق الأطفال من بني جلدتي أحلامهم.
ما عاد أحد يهتم بحكاياته. الكل تاه في جحيم يومي مميت. فلا قصته بدأت. و لا يوما ما انتهت.