أذكر أننا كنا نتجمع في عِزّ الشتاء أيام طفولة خَلَت، حول ٱلمِجْمَر الوحيد في البيت، الزاهر بنار “الكريش” الغابوية، متربعين أو جالسين القرفصاء، ملتصقين ببعضنا البعض، مادّينَ أيدينا الباردة طلبا للدفء، ونحن نرخي السمع لأجمل حكايات الجدة أو الأم، أو متتبعين بشوق نادر لبرامج الإذاعة الوطنية الجزائرية، التي كانت أمواج بثها عصرئذ قوية صافية في هدأة الليل، قبل أن تخلد للنوم -قبلنا- أنصاف جمرات تَحِنُّ لرمادها الدافئ.
ذكرى لذيذة، بتعبير “رجاء جارودي”، لاحت أمامي من بين مئات أُخَر، شأني شأن الشاعر “بودلير” حين قال: (لي من الذكريات أكثر مما لو كان عمري ألف سنة). تذكرت كل هذا لما وقع بصري على اللوحة الفنية الرائعة “الأمل الكبير.. في زمن كورونا” للفنان المغربي المتميز “نور الدين برحمة” والتي نشرها بتاريخ: 25 مارس من السنة الجارية.
مناسبة اللوحة، كما هو واضح من عنوانها، ما يعرفه العالم أجمعه من “جائحة” صُنّفَت الأبلغ في الخطورة على مستوى التاريخ الحديث للبشرية، مصدرها “فيروس كورونا” المعدي، الذي دفع الإنسان المعاصر إلى لزوم بيته، في ظل “حجر صحي” فرضته -تقييما وتقديرا- كل دولة على حدة. وعليه، فإن “برحمة” من داخل حجره الصحي الخاص به، لم يكن يباشر عمله الفني هذا فارغ العقل، شريد البال، عديم الإحساس والشعور، وإنما كان ولا يزال شاهدا بشكل “شاعري”، على اللحظة التاريخية الحرجة التي يمر بها العالم كله، ألم يقل النحات الفرنسي “أوغوست رودان”: (إن الفن هو ممارسة الفكر الذي يبحث عن فهم العالم وجعله عالما مفهوما)!؟. من هنا كانت تيمة “الأمل” حاضرة بقوة في المشهد، ويظهر ذلك جليا في “الضوء المنبعث” من ثقبين في “الجدار الاسود” جعلهما برحمة على شكل بناء هندسي ضارب في البعد، وكأن العيون الثمانية “المطموسة” التي تتعقب هذا الضوء بتركيز حواسي سديد، تستبطئ وصوله الذي ترى فيه معادلا وحيدا للخلاص. إن هذا الغموض الذي أضفاه الفنان على الأجساد المتموجة، التي تنبئ بحالة من العجز أمام حركية الفيروس الرهيبة، هي أجساد بغير ملامح -نراها- ولا أعمار ولا جنس ولا عرق ولا هوية، مما زاد من جاذبية اللوحة وجماليتها، وترك مساحات شاسعة من الخصاص الذي يدفعك إلى التفكير في ملئه والإسهام في رتقه. وللإشارة الضرورية؛ شخوص برحمة لا وجوه لها، حسب اطلاعي على بعض لوحاته، وهذا اختيار جمالي موفق، يبقى مشرعا على كل التأويلات.
إن “في إتقان الفن نوع من اللافن” في ظني، على غرار ما قاله “فلوبير”: (في إتقان الكتابة نوع من اللاأخلاقية). والرسم نوع من الكتابة في نظري، فقط عوض القلم نحن هنا أمام ريشة تكتب بالألوان؛ ألوان من الفكر. أليس في هذا “التجاور” بين الأجساد بما أصبغه عليها برحمة من ألوان، كتابة/دعوة مبطنة للتعاون والتكامل والتضامن بين كل شعوب الأرض، للقضاء على هذا الفيروس اللعين!؟ ألا تحمل ألوان هذه الأجساد دلالة عميقة تختص بلون بشرة هذا الإنسان، المهدد في كينونته الموزعة على القارات الخمس!؟ أليس في استدارتها من أسفل تأكيد على الانتماء الأوحد للأرض الدائرة المستديرة، وعلى العمل على حفظها وحفظ ما/من فيها حتى لا تصير “الأرض الخراب” بتعبير ت.س.إليوت!؟ ألا يعتبر اللون الأبيض الذي يشكل محورا ومركزا تستند إليه أجساد اللوحة، فكرة أساسها تجديد ولاء الإنسان للسلم والسلام، ونبذ العنف والحروب وكل ضروب القهر والقتل والتهميش والإقصاء لأخيه الإنسان!؟ وهذه فكرة، لا محالة، ستشغل بال أولي الفكر وصناع القرار في مرحلة “ما بعد كورونا”، وستدفعهم دفعا إلى تغيير نظرتهم ومسلماتهم واستراتيجياتهم “المادية” المبنية أساسا على “علاقات دولية” هشة.
ثم إن تركيز “السواد” في أركان الصورة الأربع، هو إشارة ذكية من الفنان صاحب اللوحة إلى التهديد الممنهج والدائم للإنسان؛ قد يكون مصدره الإنسان نفسه، لكنه هنا في اللوحة يتخذ شكل “الحصار الشديد” الذي لا يترك مجالا ولا سبيلا للخروج من الحجر ومن الأزمة الصحية إلا بتصنيع اللقاح، هذا الحصار الذي سببه كورونا وهو مجرد صورة واحدة مصغرة، من بين صور عديدة تظهر وتتشكل بحسب الزمان والمكان ونوع الهدف. أستحضر هنا -من منظور جيو إنساني- النهاية المأساوية ل”جوليان” بطل رواية “الأحمر والأسود”، والتي سببها طموحه الزائف إلى متع ورغبات ونزوات، تعطينا تصورا دقيقا عن بعض سلبيات الرجل “الغربي” على مدى “حضارة” ممتدة في الزمن.. حتى الزمن المعاصر.
برحمة فنان يرسم بالفكر،
شاعر يكتب بالألوان..