زهرة الليل / بقلم: ذة. سعيدة محمد صالح / تونس


كانت تُدعى رُبى، ولكن أهل القرية نادَوْها بلقبٍ استوطن الحكايات: “ابنة الزهر”. لم تكن تُشبه أحدًا، لا في مشيتها، ولا في عينيها المائلتين إلى خُضرة الطين بعد المطر، ولا في يدها التي كانت إذا مرّت على النبتة الجافة، أورقت. وُلدت في كوخ طينيّ عند حافة الغابة، تربّت على رائحة الأعشاب، وهدير المطر فوق السقف، وهمسات جدّتها التي اختفت ذات شتاء طويل، تاركة خلفها دفترًا بلا كلمات، فقط زهور مجففة مرسومة بلونٍ لا يشبه أي لون.
عُرفت رُبى بأنها تُعالج الزمان والبدن. تأتيها النساء بأطفالهنّ الحُفاة، بالشيوخ المتألمين، بالحزانى، وبالحالمين. كانت تستمع دون أن تقاطع، ثم تُدخلهم غرفتها المغطاة بستائر من الخزامى، وتضع قطرةً من منقوع زهرة لا يُعرف اسمها تحت ألسنتهم، فيبتسمون بعد بكاء، وينامون بعد سهر.
لكن في الليلة التي ولج فيها قمرٌ محجوب بسحب سوداء، شعرت رُبى بالبرد يتسلل إلى عظامها. لم تكن نوبة برد عادية، بل شُعور بذبولٍ داخلي، كما لو أن زهرة في قلبها بدأت تُغلق بتلاتها على حزنٍ لا تعرف مصدره. جربت أعشابها كلها، شربت نقيع الاكليل والزعتر، وابتلعت قشور الخشخاش، ومسحت جبينها بقطرات من زيت الورد الأسود، ولكن شيئًا لم يُجْدِ.
أتى الأطباء من المدينة، حائرين. قالوا: “ربما تعب روحيّ؟”. وقال آخرون: “إنها لعنة المعالجين.. حين يُشفَون الناس، ينسون أنفسهم”. أما هي، فآثرت الصمت، وجلست بجوار مدفأتها، تحدق في دفاترها المليئة بالزهور اليابسة، وكأنها تنتظر أن تنطق إحداها.
وذات ليلة، انكسر الصمت.
رأت في حلمها زهرة لم ترها من قبل. زهرة برية تتفتح في العتمة، بلون بين الأزرق الحالك والفضي، تشع بضوءٍ خافت لا يُرَى بالعين، بل يُحَسّ. اقتربت منها، فسمعت همسًا نسائيًا دافئًا: “يا ابنة الزهر، أنتِ نسيتِ زهرة لا تنمو على أرضك، بل فيكِ. إنها زهرة الوجع الذي لا يُقاوَم، بل يُحتضن.”
استيقظت رُبى مرتجفة. في الصباح، لم تنتظر الشمس، بل خرجت تتبع أثر حلمها. دخلت عمق الغابة التي لم تطأها من قبل. عبرت بين أشجار تهمس بأصوات نساء رحلن، وورود تتفتح على هيئة وجوه نائمة. وفي حفرة ضوء سحرية، تحت شجرة لوز متحجرة، وجدت الزهرة: كما رأتها، هادئة، مشعة، بلا اسم.
لم تقطفها. بل جلست قبالتها. أخذت نفسًا منها، وشعرت بشيء غريب: المرض ما زال فيها، لكنه لم يعد يخيفها. الألم لا يزال، لكنه صار مألوفًا، كذكرى عزيزة. وحين عادت إلى كوخها، كانت مختلفة.
منذ تلك الليلة، لم تعد رُبى تُعالِج كما كانت. بل أصبحت تحكي.
لكل مريض قصة، ولكل قصة زهرة. لم تكن تعطيهم أعشابًا، بل كانت تروي لهم ما رأت في الغابة: عن امرأة داوت الجميع حتى مرضت، فاكتشفت أن الشفاء لا يعني اختفاء الألم،
بل التحول معه. وكان من يُنصت، يُشفى.
مرت سنوات. لم يعد أحد يراها كثيرًا، لكن كل من شُفي، كان يروي عن كوخٍ طيني يعبق بالزّهر لم يعد موجودًا، وعن زهرة ليلية تنمو داخله، لا تُقطف، ولا تُشم، بل تُسكن.
وفي أحد الأيام، وجد أهل القرية دفترًا عتيقًا عند مدخل الغابة،
لم يكن فيه زهور يابسة، بل صفحات تتفتح كلما فُتحت،
وتنبت منها بتلات برية… مكتوب على الصفحة الأولى:
“لستُ من داويتُكم، بل زهرة الليل التي عشقتكم من خلالي. حين تعرفونها فيكم،
لن تحتاجوا أحدًا.”
وكان التوقيع: رُبى… آخر بنات الزهر.

ذة. سعيدة محمد صالح / تونس



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *