تشكيلية رقم: 0 / بقلم: ذ. محمد الكروي / المغرب


على جناح الضباب وبعد أخذ ورد مريرين شابهما الكثير من الانكسار والتدمر، استأنفت عجلة الرحلة دورانها جفاف وجفاء، منعرجات ومضايق خلفها كان كراء قطعة جرداء لم يخطر يوما بالبال اللجوء إليها كمورد للعيش، يلزمها إصلاح وغرس يهونان أمام هول البداية التي تعرف يأس وتردد الإقبال، وشقاء الحفر وثقل انتظار ثمار الشتائل، وعذاب تغيير الوجهة ووابل سيل أسئلة الجوار. غرابة محبطة تارة وثناء مشجعا تارة اخرى، ومن تطلعات الغد المتقاسمة الوسادة هما مؤرقا تتيه فيه الروح شعاب ووديان الزمان، لا ينتزعها منهما سوى غمضة أين منها مرحلة النوم العميق المريح مفتق الحيوية والنشاط!
بين تعثر واجترار الأقدام الموازيين لعصيان حمار مزيج أبيض و بني تبين طارئ الحال ففجر الأعصاب المخنوقة لتنهال عليه -خلافا لعادتها- ضربا أسفر عن حوافر ما فتئت تتمسك بمكانها -شأنها في ذلك شأن بغل طاحونة الزيتون- لا تغادر باب الحظيرة خطوة واحدة نحو الوجهة الجديدة، فكل صباح تتكرر اللقطة عينها تعبيرا منها عن أساها وحزنها حيال أهلها وما أصابهم من قسوة الأيام، غير المبالية وغير المستقرة على إيقاع معين، فمكنستا الليل والنهار تكنسان أثر كل واحد منهما مما نتج عنه تآكل وشقوق في صخرة الدهر اقتحم فجوتها بصيص خافت يضيء -كأنه القمر- ظلمات النفق المتراجعة وتدافع الحر والبرد، أبى إلا الانطلاق والسير على مريرته التي يحلو له التبول فوقها، ولو كان بإمكانه لأزاح في قفزة مباغتة حمولته وتمرغ يمينا ويسارا بضع دقائق وقوائمه تستجدي غيث السماء، ثم تتهاوى و تتمدد والرأس يمرح الأرض ونفخة هادئة أثارت بعض الغبار يعلن رعشته ومتعته، ثم يهب واقفا ومرتعدا تصفق أذناه. يتساقط كل شائب علق بالزغب الخلاسي، ساهيا يمرق شمس السبيل الصامت مستدعي التماهي وأجنحة عوالم وردية استحلاها الخيال فكاد الجفنان أن ينطبقا عليها في لذة كحل مرود فاتن، وقد خف عبء الكاهل وحرقة الفؤاد وغصة الحلق ودمعة العين العصية المنسابة كحمم حارقة استطاع عبد الواحد أن يضع لها حدا وهو يدعها وراء ظهره بفضل إرادته مروضة الأرض صفحة مستوية، نقرت الأثلام وخفضت المرتفع وجوف المنحدر، ردمت ترابا يرتوي مسام جسد ممشوق قوي في عقده الخامس أضفت عليه الشمس سمرة زادت من رشاقته وصلابته اللتين صخرهما لاستخراج مكنون الثنايا شبيهة منجمي ذهب ومرجان، وفي مقدمتها رفع الأزبال والأوساخ والأتربة المتراكمة لفترة طويلة انتشلها ساعدان ومسحة وقفتان تتناوبان الصعود والهبوط طلبا للندى المحفز على الإصرار في مواصلة جهر البئر المهملة وصقل مرآة الماء لمعانا فضيا على جنباته ينط يخضور وحبور منثور الجد المدوي حمدا وشكرا لله وصلاة وسلاما على العربي العدنان وقصعة كسكس يلتف حولها الصبيان وهم يلهجون في شغب الرحمة للوالدين والرزق الواسع وطول العمر.
يتنفس عبد الواحد الصعداء فالغم زفير لاهب أصبح وجمال شمس جديدة ونصفه اندثر، فرجحت كفة الأمل قائدة الذات وشاحدة الهمة المتخطية كخيل أصيل متوتر الغرة والعرف ومسدول الذيل كل الحواجز بنجاح باهر شد إليه العيون. ذلك حال صاحب القبضة القوية مباشر يومه بما أعده ليلة أمس، فمحمل حماره يضع أغراضه المستجيبة لكدح يومه الطويل سقيا وغرسا يحرص من خلالهما على نمو الغرسة نموا طبيعا بعيدا عن أي تداخل بين الفروع حاجبة الضياء، إلى جانب اعتماد رونق هندسة الفضاء الصغير المساحة لكن خيره يد ممدود في كل فصل، فهذه نخيلات وتلك زيتونات بعدها بضع رمانات ثم عين الحجلة وما بقي للحبوب قمحا وشعيرا. يرمي عبد الواحد من جهده الجهيد غفلة النفس ونسيان الورى والهروب من القيل والقال ومحاولة استدراك ما يمكن إدراكه، غير أن نخيل المرتع الأول حراسة واستغلالا سكن القلب و أوهمه بكونه متاعا أو في أحسن الأحوال شبه ذلك لا يغرب شموخ نخيله و تلويحاته المتباهية المتراقصة و هبوب الريح سحر همس تبث نجواها بارد ظل خضير الجريد والجدع ومزهرية الشتائل المحتمية بأمها ينتشي ودورة عقربي الساعة زاد من بهائه استرسال جوق زقزقات تستحم وترتشف متعثر ومتقطع خيط ماء جدول نحيف يود السكون وحضن معشوشب ضفتيه، نفس الأمر كذلك بالنسبة للأهل فالمخيلة ساحة يتجاذبها رغد الأمس وهناؤه وحيرة اليوم وتساؤلاته التي دأب الجميع أن يلود منها إلى الخيال ، حيت يتمثل لهم أحيانا عديدة أنهم مايزالون في مكانهم الأول الذي عاشوا فيه لعقود خلت ليردهم إلى واقعهم الحالي حدث بسيط يجسد نتوءات صخرة الحاضر التي تجاوزها الحلم وهو يشق ممرا على جانبها الصلد، بسند من الحمار فلا بأس ورجع الواقعة يتصادى الجوارح من أن يوجه بحركة لطيفة مطبطبة برفق من يد صاحبه جانب عنقه لتندفع الخطوات نحو شرق القرية بدل غربها.
ثابر الرجل على العناية الفائقة بالارض المكترية -راجيا أن تصير بين عشية وضحاها مثل سابقتها- سقيا وتشذيبا وتسميدا فأضحت روضا يبهج النظر ويطمئن القلب وحبل المنى غمار كثف من اجتهاده وكأنه في سباق مع الزمن لا يرتاح إلا إبان تناول ملفوف المزود أو الجلوس إلى شربة تحفظ بعض برودتها قطعة خيش حول قنينة، إلى المغيب مالت البرتقالة مكدودا وبمشقة اعتلى الدابة فراح والحمى درجة مرتفعة إثر ضربة شمس حارقة خف لهيبها بعد طلاء الجسد عدة مرات بخليط مدقوق العرعار والخل والورقية، فتماثل للشفاء لكنه لم يسترد عافيته كاملة ما أوجب زيارة الطبيب الأمر بأدوية مختلفة ضمن ابتسامة هونت الحالة وبعثت الأمل واحقنت الكل فرحا كبيرا أنساه حرمان جنان هناك وشقاء شتائل هنا.
مرت أيام وأيام وعبد الواحد على غير عادته يسوف، كل يوم يؤجل لما يليه وعند ضوئه يقدم رجلا ويؤخر أخرى لكن نهيق الحمار الضجر من الحلقة الضيقة التي بات الاثنان ضحية وحدتها جعله يتحرك. برسيما وماء وتبنا يحمل إلى حماره محسن استقباله بمستفيض النهيق تردفه دربكة قوائم مرحة تهش الفرح ثم التمسح بصاحب اليد الحانية، مشوشا ولمرات لا تفوق أصابع اليد الواحدة إلا قليلا قصد عبد الواحد غريساته -بنفس باردة ويدين كسولتين- إرضاء لصاحبه المشتاق لفضاء القطعة المشمس ثم الأكل من خشاشها والارتواء من عذب ماء بئرها دلوا إلى دلوين بمعية صفير سبقه زعيق جرارة دون الالتفات إلى تهدئة صراخها.. أثناء الطريق الملتوي المستقيم المنحدر الصاعد لم يبادله نحنحة أو حثا بمضموم الرجلين أو حتى الإمساك بالعصا، ذات السيناريو ينطلي على الشتائل ويخضور غائر سكة المحراث الخشبي من قمح وشعير، رحاب عالم آخر من غير هدف معلوم واهنة دبت قدماه في سابقة هنا وهناك، ولحظة شعوره بالكلل يغير الوجهة لكن الملل يلاحقه فيرجع أدراجه وهو يعزم على العودة ليجد أمامه عدم استجابة الحمار فلا داعي للقلق والتشنج فالشمس لم تتخط وسط السماء، فعمد إلى تجزئة الوقت إلهاء له وتلبية لمراد عشيره منحنيا يجمع ما تناثر من جريد طوحت به ريح صرصار. خلال مرضه انقلب كل شيء رأسا على عقب فلا إقبال على العمل مانح الغبطة والسرور فكل نهاره بين فكي الانكماش والانزواء لا يغادر البيت إلا لماما أو إبان قبول دعوة ملحاحة لأحبة يزورونه كلما جادت الظروف، يقصدون الغابة وبين ظلال الأشجار يتنقلون ويمرحون تحت رفيف أجنحة الطيور وخشخشة أوراق قصب يتهادى و نسيم منعش يودون لو يصطحبون منه أكياسا إلى بيوتهم الساخنة كالفرن، رويدا رويدا يرخي الليل ستاره، فضاء رحبا أحرشا ذا حصى رقيق حاد كأنه الشوك يقيمون صلاة المغرب، ثم يستمرون وغبطة طفولية تجري الألسنة كان وكان وهم يعيشون طورا آخر، إشراقات وعتمات رفوف الذاكرة واحد هم تذكير أو إضافة إلى ما أتت عليه ممحاة النسيان، وعبد الواحد لا يشاركهم استعادة دفء ما مضى إلا نادرا…

ذ. محمد الكروي / المغرب



اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *