يعتبر الحبّ من أسمى المشاعر الإنسانية، وهو المحرك الأساسي للكثير من الأفعال والإبداعات،
لذا، يعتبر الشعر خير وسيلة للتعبير عن هذه المشاعر،
ولكي تصبح شاعرًا عليك أن تملك هذه القوة الدافعة للتجديد وللتغيير الإيجابي.
فالحبّ ليس مجرد شعور عابر، بل هو حالة وجودية تعبر عن نظرة الإنسان إلى الكون والحياة، يجعل كل شيء وقع عليه أكثر إبداعاً وإيجابية.
ذكر القس جوزيف أيليا في أحد حواراته أنه “يسعى في نتاجه الأدبي الى خلق عالم من الجمال في ظل القبح والحروب التي دمّرت كل شيء خاصة في بلاده”.
فكم من لحظة لقاء ولدت شرارة حب أضاءت دروب الإلهام، وأخرجت من الأعماق كلماتٍ تشدو كالألحان.
ذلك هو قلب الشاعر جوزيف إيليا، لحظة شعرية بدأت بكلمة “أحب”. لتغوص بنا إلى عوالم حيث
التجديد والجمال، عالم شعري مليء بالحقول والزهور والرّوابي، لتنقلنا إلى ملاذ العاشقين الهاربين من هموم الحياة،
وهذا ما هدانا إلى مرافقة الشاعر في رحلته لنكتشف كيف يمكن للحب أن يحول إنسانا إلى شاعر.
أن تكون شاعرا عليك أن تحب الخير وتحب الناس وتحثهم إلى التخلص من كل ماض مؤلم، وأن وتركز على الحاضر والمستقبل، وذلك من خلال سلك درب القائلين: “وداعاً لأرضِ الخسائر”،
وقل كما قال الشاعر:
وقالت:
أحبُّ
فقلتُ:
أحبُّ
وصرنا نودّعُ أمسًا علينا رمى ما كرهنا
ونحضنُ يومًا بلا قلقٍ أو مخاطرْ
بأسلوب شاعري رقيق، وبكلماتٍ بسيطة، يرسم لنا الشاعر لوحةً بديعة للحب والحياة.
حيث ابتدأ الشاعر بحرف ابتداء، والواو هنا له دلالته وقوته التي تتجلى في لفت الشاعر انتباه القارئ لشيء حدث من قبل، لكن الاسترسال في القول يدل على عفوية حضوره:
“قالت” و”قلت” تعكس لقاء مباشرا وعفويا بين الطرفين يجمع بينهما إحساس موحد تتمثل في كلمة “أحب” تتكرر لتؤكد قوة المشاعر المتبادلة وبساطتها في الوقت نفسه.
من خلال هذه العلاقة العفوية، يمكن التأكيد على أن دلالة الواو أتت للفصل بين زمنين، يتجسد من خلالهما توديع للماضي واستقبال للحاضر، فعبارة “نودّع أمسًا” تحمل دلالة واضحة على التخلص من الماضي بكل ما فيه من آلام وأحزان. “رمى ما كرهنا” لقاء يهدف إلى تطهير النفس من مصدر كل إزعاج وأذى..، في المقابل: علينا أن “نحضنُ يومًا” كله تفاؤل وأمل في مستقبل زاهر مليء بالحب والعطاء، حياة هادئة وسعيدة: “يومًا بلا قلقٍ أو مخاطر”، حياة يسودها الهدوء والاستقرار.
هذه النظرة التفاؤلية تعكس رغبة الشاعر في حياة آمنة بعيدة عن مآسي الحروف والفتن، التي سادت المنطقة العربية والإسلامية..
حياة هادئة بكل بساطتها، كبساطة مفردات هذه القصيدة العذبة الإيقاع، ذات التأثير العميق في النفس البشرية.. لغة كلها شاعرية رقيقة لتعبر عن مشاعر صادقة وأهداف نبيلة.
وقد لعب التكرار دورا فعالا في الحفاظ على الإيقاع، كما لعب المجاز دورا كبيرا في خلق صور بصرية شعرية بديعة، فعبارة “نحضن يومًا” تعبر عن ارتباط الشاعر العاطفي الشديد بهذا اليوم، يوم اللقاء بالحبيب، كما تم تصوير الماضي وكأنه أعباء وجب التخلص منها: “رمى ما كرهنا” (استعارة).
فمن خلال هاتين الصورتين البلاغيتين صور الشاعر مشاهد تضاد بين “أمس” و”يوم”، وبين “كرهنا” و”أحب”. مما يعكس الحالة النفسية التي طرأت على حياة الشاعر.
لحظة انتقالية في حياة العشاق، وفي كل من يفكر في حياة جديدة خالية من الأوجاع..؛
ونصحو على صوتِ نايٍ
ورائحةُ الشّايِ نشتمُّها كالعطورِ
ونبدأُ صبحًا بهِ
نحو حقلِ الجَمالِ نسافرْ
إنها لحظة انبعاث جديدة، وكأننا نمتطي ظهر عنقاء جديدة تأخذنا إلى أرض الجمال، حيث العطور التي تفوح من داخل الحقول، نصحو على أنغام الطيور، ونحن في مجلس استراحة شاي، يحفه الهدوء والطمأنينة من كل مكان.
“نصحو” فعل يدل على بداية جديدة وحياة جديدة. هذه البداية مرتبطة بأصوات وروائح الطبيعة التي تملأ المكان جمالا وبهاء.
وهي دعوة من الشاعر للسفر إلى عالم ملائكي، ملهم لكل شاعر، إنها رحلة سفر داخلية نحو الذات والبحث عن الجمال أينما كان.
وهذا ما يؤكد على أن كل يوم هو بداية جديدة، هي فرصة لتنمية الذات وتعزيز طاقتها. تتجدد بتجدد الأفعال: “نصحو”، “نشتم”، “نبدأ “
أفعال مليئة بالحركية والحيوية،
تقابل بين عهدين سابق ولاحق نلمسه حتى في تقابل الأصوات
(ن/ ت – م/ ل – ص/ط – و/ي – ح/ج – ف/ ق)
تكرير هذه الاصوات لم يأت عفويا بل اقتضاه الإيقاع العام للقصيدة، و سبق أن أشرنا الى لجوء الشاعر لاعتماد التكرار اللفظي والصوتي كآلية من آليات البحث عن الوزن المتكرر والإيقاع المتقارب..:
فنجري
ونحنُ نقولُ :
وداعًا لكسْرِ المرايا
ورجمِ الحكايا
وأهلًا ببوحِ المشاعرْ
فاء العطف التي تفيد الترتيب مع التعقيب، تتناسب مع دلالة فعل “جرى” السريع الفعل والإيقاع:
نصحو “نبدأ” نجري = النتيجة (وداعًا لكسْرِ المرايا ورجمِ الحكايا)؛
تعاقب سريع في التخلص من الجراح والكسور التي تسببت فيها الأيام الصعبة الموجعة.
وردود الأفعال في صيغة المضارع المتكلم (نحن)
فيها من الدلالات القوية الدلالة على الحركة والسعي نحو هدف ما. هذه الحركة ليست مجرد حركة جسدية، بل هي حركة نفسية وشعورية تأخذك إلى حياة جديدة، وإلى عالم مليء بالحب والحياة.
كل هذا بتعبير دقيق وبسيط قابل للاستيعاب والتجدد: “وداعًا” تعبر عن رغبة في التخلص من آلام الماضي وتجاوز الصعاب، في حين أن “أهلًا” تعبر عن استقبال لحياة جديدة مليئة بالأمل والتفاؤل. وهذا يقتضي: “كسر المرايا”، مرايا رمز الانعكاسات الذاتية والصور النمطية. أما كسرها فيشير إلى رغبة الشاعر في التحرر من هذه القيود والحواجز: (رجم الحكايا): في القول إشارة إلى الماضي الغارق في الأحداث السلبية. ورجمها يعني التخلص من هذه الذكريات المؤلمة والبدء من جديد، من أجل الانفتاح على حياة جديدة، وهذا لا يتحقق إلا بما عبر عنه الشاعر ب: “أهلا ببوح المشاعر”: التي تعني الرغبة في التعبير عن الذات الحقيقية دون خوف أو قيود.؛
وداعًا
وداعًا لأرضِ الخسائرْ
إصرار ورغبة شديدة في الابتعاد عن مكان محدد تسبب في خسائر مادية أو معنوية، وفي الكثير من الألم والحزن.
وقد يكون معنى مجازيا يدعو الناس الى الابتعاد عن الأفكار سلبية أو العادات السيئة التي كانت سببا في حصول خسائر أيام حياة الشاعر.
والشيء الجميل في النص أن كل العبارات توحي
لك بوجود أمل، وأن هناك حياة أفضل تنتظرك، وهذا نابع من قوة مشاعر الشاعر وعزيمته القوية لتجاوز كل الصعاب المحاطة بأرض الخسائر، (خسائر جمع خسارة على وزن فعائل، جمع التكسير تدل على الكثرة). يتناسب وكلمة “وداعا” التي تكررت ثلاث مرات، كلمة تحمل دلالة عاطفية قوية، ساهمت في تعزيز التأثير العاطفي للنص.
دون أن ننسى التناغم الصوتي الذي ساهم في خلق إيقاع موسيقي داخلي، جعله أكثر جاذبية للمتلقي.
وبالرجوع إلى السياق العام للنص نلاحظ كيف أن كلمة “وداعًا” لم تشعرك بالجو الحزين، أو للتعبير عن فقدان عزيز، بل حركيتها السريعة وارتباطها بما قبلها (وداعًا لكسْرِ المرايا)، يشعرك بالاطمئنان والارتياح، فالوجهة آمنة والرحلة شيقة وممتعة، خارج أرض الخسائر، كما أشار الشاعر.
وهذا كله لغاية في نفس الشاعر:
ونطردُ عنّا ضبابَ الهمومِ
ونلهو
نراقص زهرَ الرّوابي
ونصفعُ وجهَ المقابرْ
في ذلك إشارة للرغبة في التخلص من هذه الأحاسيس السلبية “ضبابَ الهمومِ”.
الضباب هنا رمز للغموض والقلق.
دعوة إلى التخلص من كل ما يثقل كاهل الإنسان، والبحث عن راحة نفسية، وحياة هادئة: “نلهو”، “نراقص”.
وهذا يقتضي منا التحدي وطرد الهموم وصرف النظر عن “وجه المقابر”.
كلمة المقابر تحمل دلالات عدة كالموت، والنهاية، والماضي.
ولا شك أن الشاعر يدعونا إلى التحرر من كل ما يثقل كاهلنا، سواء كانت همومًا أو قيودًا اجتماعية أو نفسية، من أجل الاحتفاء بالحياة الجديدة التي تنتظرنا،
لاحظ كيف أن الشاعر يركز دائما على أهمية الاستمتاع بالحياة بدل دفن الذات في الهموم والأحزان.
وهذا يتطلب تحدي الصعاب والوقوف في وجهها،
على حد تعبير المرحوم الشاعر الفلسطيني محمود درويش (على هذه الأرض ما يستحِقُّ الحياة).
وقد أعطت أفعال المضارعة شعورا متكررا وقويا بقيمة الحياة وحيويتها، وكأن الشاعر يصور لنا الأحداث أمام مرآنا ومسمعنا، خصوصا وأنها كلها جاءت بصيغة ضمير المتكلم “نح “،
مشاهد فنية قوية لحالات (الطرد والصفع) (اللهو والرقص)
أفعال تشعرك فعلا بالقوة والحيوية والتقابل..
ليضعنا الشاعر أمام صورة جديدة:
وتبقى تقولُ:
أحبُّ
وأبقى أقولُ:
أحبُّ
هل عاد بنا الشاعر من حيث انطلق (يخاطب الحبيبة)
أم الشاعر يوجه الخطاب مباشرة إلى المتلقي/ السامع،
وكأن الجميع يردد دون توقف: “أحبك، أحبك..”.
هل هي لحظة تواصل مباشر بين الشاعر والقارئ!؟.
هذا ما لمسناه أثناء التطرق إلى طبيعة أفعال المضارعة السابقة بصيغة الجمع، المليئة بالحيوية والواقعية التي نقلت القارئ إلى الواقع الذي يتصوره الشاعر، حيث جعله يشاهد الأحداث وهي تمر أمام أنظاره:
ونفتحُ شُبّاكَ أغنيةٍ لحنُها لا يشيخُ
نطيرُ بأجنحةٍ مِنْ رجاءٍ
ونرسمُ لوحةَ عيشٍ بلونِ الخلودِ
بها هي تسمو
وتصبحُ دنيا كلامٍ جميلٍ وساحرْ
نحن الآن أمام بنية جديدة متكررة بصيغتها السابقة من أفعال المضارعة:
“نفتح”، “نطير”، “نرسم”، “تسمو”، “تصبح”. أفعال تدل على الحياة الإيجابية، تشعرك بالحيوية والنشاط.
مقابل أسماء: “شُبّاك أغنية”، “أجنحة”، “لوحة عيش”، “دنيا”، “كلام”، “جميل”، “ساحر”، تحمل دلالات جمالية ونفسية عميقة، تدعو إلى التدبر والتأمل.
فالحياة قصيرة ليست فقط للهو والرقص، بل لا بد من السمو بالنفس، ورسم معالم حياة جديدة، بعيدة عن الصراعات والنزاعات القومية والقبلية،
وهذا تلمح اليه بعض الصفات: “لا يشيخ”، “بلون الخلود”، “جميل”، “ساحر”، تعزز من قيمة الحياة وجمالها.. جمال صور القصيدة البلاغية: “نفتحُ شُبّاك أغنيةٍ”، “نطيرُ بأجنحةٍ مِنْ رجاءٍ”، “نرسمُ لوحةَ عيشٍ”. هذه الاستعارات خلقت صورًا شعرية راقية، تعبر عن مشاعر وأحاسيس نبيلة، “لحنُها لا يشيخُ”، “بلونِ الخلودِ”.
هناك أمل كبير في المستقبل وحياة أفضل.
ليأخذنا بذلك إلى أهم لحظة في النص:
وفي لحظةٍ أنا ألبسُ أثوابَ مليونِ شاعرْ
الشاعر هنا يشير إلى أن حياته لا تقتصر على شخصية واحدة أو تجربة فردية، بل يتقمص شخصيات مليون شاعر، يجمع في نفسه تجاربهم وأحاسيسهم وإبداعاتهم.
فالشاعر هنا يشجع على الإبداع والتعبير عن حقيقة الحياة، بكل حب وإخلاص، بهذا الشكل يمكنك أن تصبح شاعرا.
“أثواب مليون شاعر” هل تشير إلى برنامج شاعر المليون ذاك التراث الشعري الضخم ، ويود أن يرتدي الشاعر زيه،
أم رغبة في التكامل والتزاوج بين الأفكار والتجارب الشعرية المختلفة.
عموما، هناك إحساس لدى الشاعر بأنه جزء من سلسلة طويلة من الشعراء، يمكن أن يستمد قوته وإبداعه من هذا التراث الفني. وأن يكون صوته في نهاية المطاف صوتا للجميع، يحمل همومهم ويشاركهم آمالهم.
هكذا أصبح شاعرنا شاعرا
من خلال رؤيته التفاؤلية للحب والحياة،
تجلت في مقاطع قصيرة ومتكررة، أعطت للنص إيقاعا سريعا ومتسارعا، تعكس حالة الانطلاق القوية التي افتتح بها النص. معتمدا على أسلوب انفعالي عاطفي، وشاعرية رقيقة، وبناء فني متقن،
ألفاظه كلها تدل على الحسن والجمال، وحب الشاعر للحياة. مشاعر أحدثت تحولًا عميقًا في نفسية الشاعر.
تلاحم قوي بين مكونات النص الشعري، جعلت منه نموذجا يمكن السير على خطا الشاعر، والاستفادة من تجربته الكبيرة في نسجه لشكل شعري متطور يساير العصر، حيث يضعك أمام تصور جلي لوظيفة الشاعر في هذه الحياة. قد تلهم الآخرين للتعبير عن مشاعرهم الخاصة لبناء جسور التواصل مع كل متلق عاشق للإبداع والتجديد، معتمدا على جمال اللغة التي تجمع كل محب لنشر الوعي بين القراء، مهما اختلفت ثقافاتنا وألسنتنا.
ذ. سعيد محتال / المغرب
هكذا أصبحُ شاعرًا
وقالت:
أحبُّ
فقلتُ:
أحبُّ
وصرنا نودّعُ أمسًا علينا رمى ما كرهنا
ونحضنُ يومًا بلا قلقٍ أو مخاطرْ
ونصحو على صوتِ نايٍ
ورائحةُ الشّايِ نشتمُّها كالعطورِ
ونبدأُ صبحًا بهِ
نحو حقلِ الجَمالِ نسافرْ
فنجري
ونحنُ نقولُ:
وداعًا لكسْرِ المرايا
ورجمِ الحكايا
وأهلًا ببوحِ المشاعرْ
وداعًا
وداعًا لأرضِ الخسائرْ
ونطردُ عنّا ضبابَ الهمومِ
ونلهو
نراقص زهرَ الرّوابي
ونصفعُ وجهَ المقابرْ
وتبقى تقولُ:
أحبُّ
وأبقى أقولُ:
أحبُّ
ونفتحُ شُبّاكَ أغنيةٍ لحنُها لا يشيخُ
نطيرُ بأجنحةٍ مِنْ رجاءٍ
ونرسمُ لوحةَ عيشٍ بلونِ الخلودِ
بها هي تسمو
وتصبحُ دنيا كلامٍ جميلٍ وساحرْ
وفي لحظةٍ أنا ألبسُ أثوابَ مليونِ شاعرْ