بعيدا عن قريته، بساط بور مرتاح، وخلف الجبال الوعرة، على أوراش تحمي من الصقيع والهجير وعويل الريح الممزوج زخات مطر، كان عبد الرحمان يلتقط السنبلة تلو السنبلة، وعلى يد آمنة يرسلها سلاما ينسج التواصل والتطلع إلى زيارة قصيرة تورق الأنس والدفء الذين ما تكاد إشراقتهما تزيح ظلمة الغياب، حتى ينطفئان مهب تلويحة رحلة لا تخطئ الموعد.
بين سفر ممتد وتواجد خاطف، معدود الأيام والليالي، ضج البيت ولدا يبهجون العين،
صخبا يمرحون الفؤاد، طلبات وأسئلة لها الأحضان والاستجابة المرضية.
على جناحي الحل والترحال ضمن حلقة مفرغة، يتنفس هنا هناك، ويستعجل هناك هنا، وبينهما انساب الحلم.
كبر الأولاد تحت رقة الأم، عليها يغمضون كل مساء، واستجابة لندائها اللطيف تنفتح عيون البراء ة كل صباح، وهم فرح أخذ وسباق سرعان ما يعقبهما الصمت والهدوء المشوبين قلقا وحصرة وندما على ما يكون قد صدر من قسوة نتيجة ضغط لا يقبل التأخير.
يعيش عبد الرحمان هذا الجو التنافسي الجميل وكأنه في حلم، حتى إذا استيقظ من تجاذبات مجرياته، حاول إعادته ثانية وثالثة بغية الوقوف عند كل صغيرة وتأملها حلم يقظة جوار أهل منصرف إلى شغل يومي مكرور.
بعطف يصلح عبد الرحمان ما لا يماشي رغبته في أولاده الذين يستجيبون إرضاء له.
في زيارة أخرى، وبعد طرح العياء، يتبين أن حرث المرة السالفة ذهب أدراج عدم الحرص والتذكير، فيرفع الإيقاع أمرا ونهيا وزجرا محمر المقلتين مع سيل من التنبيهات رفقة توبيخ محتشم على مسمع من الجميع أملا في فهم المراد قبل فوات الأوان.
جيئة وذهابا، نفس الطريق، نفس الترتيبات، نفس التضاريس، مضت حلقات الزمن، فذبلت زهرة العمر، وعبد الرحمان يرص اللبنات خطوطا مرصوصة، أو ثنايا براكته رفقة مذياع يعظ، يشدو، يخبر، وطورا آخر أهازيج حنجرة مبحوحة تطوي المسافات، تحت سقف صفيحي شبيه بالفرن صيفا وبالعراء شتاء ممطرا.
يستحضر قبل عناق الجفنين ذريته وبعض حاجاتهم في توقف أمام كل واحد وصدى كلماتهم تطرب سمعه، فينام وقد قرر أن يقتني كل خميس وهو يتسلم كد اليدين وعرق الجبين رغبة عبد الله، عبد الواحد، نزهة وكلثوم..
عاد الأب إلى بلدته وقد لفظه “الساس” واسترسال اللبن الوردي الخلاسي أدراجا تتودد نوافذ الغيوم، وكل مرامه أن يعوض الأسرة ما سلبته منها الهجرة من رعاية وحنان وتقويم تصادم وعدم مبالاة البكر وتابعه، وهو ما تبينه منذ زمن بعيد، عبر الفراسة العميقة المتنبئة بالخسران لقلة الالتفات إلى منثور درر الخبرة والتجربة.
ضجر الأب وضجر الولدان وضجرت الأم، وعم البيت سوء الفهم، فكان التغاضي ولباس الغفلة أحيانا، مطلع هدوء ما قبل العاصفة التي يجب أن تضع حدا لمعاناة الجميع، المتجددة كل لحظة بمجرد التماس ولأتفه الأشياء، حصيلة رتابة وعدم استنشاق هواء نقي، إليه لجأ الأب فرارا من زوجة ثرثارة لا تصمت إلا برهة قلب الصفحة لتبدأ نشرتها الإخبارية عن فلان أو فلانة، وهو أكره ما يكره عبد الرحمان.
انسلاخا من هذه الزاوية المظلمة، دون دراية عمد الأب إلى بيع صندوق بطاطس، طماطم، وبصل بالتقسيط، عادوا بربح خضته اليد بين هنيهة وأخرى طلبا لرنين القطع المعدنية، فتوطد العزم على الاستمرار بعد تراقص شعاع الأمل نافض ثقل الأيام، غير أن الفرحة التوت وجف ماؤها وهي بعد في المهد، لتتناسل الخسارة ثم التخلي مع إعادة النظر كل ثنيات القدرة الضعيفة التي لا خيار أمامها إلا عربة اليد المكتفية بقليل من قفف ثلة من المتسوقين في جهد عضلي كبير، مرة إلى اثنتين وكله عرق وإرهاق لم يعرفهما من قبل، يقول هذا في نفسه لتلهجه خافتا شفتاه اللتان لا تلبثا أن تتكلما صوتا مسموعا يلج كل مسام الجسد المنهك:
-كم أنت مر يا خبز !
واليد قبض الريح، تخلص الأب من كل ما له علاقة بالبارحة، باع ما في حوزته من أدوات البناء الملفتة للانتباه كل حين، ثم الميزان وأوزانه غير الضائعة فذات العجلتين معذبته فارغة أو بطنها بعض الأغراض الخفيفة.
لزم عبد الرحمان البيت، وبات كل كلامه تقويم ونصح الولدين غير المهتمين لا لعصيان وإنما لكونه لا يساير ما يشاهدانه وما يسمعانه من أترابهما الذين يحكون مرونة وتحاور آبائهم.
ركن الأولاد إلى أمهم فكانت الحمى والتحامي، وصار كل ما هناك، الضروري من بنت الشفاه تلبية لمساعدة أو استجابة لطلب نادر.
لجم عبد الرحمان فمه، وما انفك ينظر إلى واقع الحال نظرة الأمس، التي تبينت عتمة الزمن الرديء، والمرارة لهيب حارق تخمد نيرانه عينان دامعتان.