من داخل الغابة المتناثرة أشجار النخيل شمال القرية واجنحة الليل والنهار خفق تدحرج بعيدا على سفح الزمان، كانت تثقل حمارها المسن أربع قلل، وهي تحثه على السير برجليها حول رقبته وأذنيه الطويلتين المرتخيتين اتجاهين مختلفين، جراء شمس حارقة تدعو الى السكون والقيلولة.
والرمش يتودد الرمش همسا ماتعا، تطرق صاحبة الحمار الباب طرقا، ثم آخر، ثم تصيح بصوتها المزعج:
-يا أهل الدار.
يفتح الباب فتدع الجرار والمحمل والبردعة ظل الحوش، وإلى البيت خطوة وسلام يهز الأركان… ترتاح على راحة من انتزعتهم من غفوة تغافل الملل والحرارة… والظل زحف تتقدم إلى منكسر بريق مرآة محطمة متجعدة.
تنتظر انسكاب دموع ذرات البئر شبه البليلة، بعد أن تم حلبها في الصباح… بطيء يمضي الوقت، فلا يتأتى لها ملء القلة الأخيرة إلا وآذان المغرب أو بعده.
ترحل وشونها شربة ورغيف وقد استعادت الدار هدوءها وضياءها اللذين جرفهما شلال القيل والقال ذي النقر الأولي كنف الدار، مما أدى الى تعكير الصفاء… لا نهيق ولا شغب صغار يتحلقون حوله… ليومين إلى ثلاثة ثم يعود الطرق رفقة كلب ابيض اللون، ينبح بين الفينة والأخرى في إشارة إلى تواجده الممدود الأطراف على لسان وردي يستعجل برودة في حراسة أسنان بيضاء مسننة كالمنشار.
لا يستجيب لإغاثة الباب إلا الشيخ، بعد كلل الأهل من الزيارة غير المناسبة زمنا وحاجة، إلا أن ضجر الشيخ دفعه الى فتح الباب والصدر ساحة نزاع بين شعوري الاستهجان والترحيب الحافظ لماء الوجه.
تنال من الخابية غرافا، تمسح عرق وجه أسمر تعلوه وشمة باهتة الخضرة وعنقها عقيق بمختلف الألوان يقاوم ملح المسام، وبغطائها الأسود تستجدي خفيف هبوب، على يد ذات حناء متلاشية حفظ وهجها الذابل بقية أرجوان مقدمة الأظافر أطرافا عليا وسفلى، منهما في خفوت يشع خاتمان نحاسيان أحمران، يحميان من الجن والعين.
يطير فرح القيلولة، يليه تقلب وسلام محتشم على باترة شريط احلام النهار. خلال شاي العصر، يجري اللسان مقارنات: ينقصكم كذا وكذا وحتى كذا، المنمة عن تطلعات خفية، تحاول الكشف عن طيات صاحبتها، والتي يبدو أنها من ذلك النوع من البشر الذي لا يحتفي بالكثير المتنوع مما بين يديه، وأولها بئرها المستوفي لحاجتها، وتراكم البريق المختلف المصادر…
فالمهم عندها قليل الشيخ، ولو سنحت الفرصة لانقضت وانتزعته بالقوة، ذلك ما تقوله عيناها الكثيرة اللف والدوران في محجريهما… لا بأس من أن أقلق الراحة وأنا أمرح البيت الطيني الفسيح والبارد والمضيء طول النهار، عكس بيتنا المتعدد الغرف الضيقة والمظلمة… وأنا غريبة عن هذا الجو، أخلو الى نفسي في متعة تجني بعض بهجة الحياة، في رشفة ما توتر من ألوانها، ووراء ظهري عقد ونصف العقد أنتشي كصغيرات الوقت، استعارة قفطان يليق بعقيقة أو عرس وما يتبعه من قراط وسوار وعطر وسواك وكحل يخفون مطاردة الفصول.
أصبحت المتصابية وكلابها المختلفة الألوان كواحدة من أهل الدار، وإن شذت عن السلوك والذوق الخاصين، ما أثار ضيق وحفيظة الجيران.
في مزاح يجمع بين الهزل والجد بادر الشيخ مرة، وهو يلتمس راحته مع أصدقائه تحت الشجرة العذبة الوارفة الظلال.
-المرة المقبلة، وأنت آتية من أجل السقي، لا تنسي ملء القلل حتى نذوق ماء بئركم.
-مرحبا، مرحبا، ماكم زين احرش، يفرغ المعدة والأمعاء، انه كالسكر لا يضر مهما شربت منه.
رجع صفير الريح تشدو الجرار، مع وجع الباب وضيق وخجل الأهل من قلة جود البئر الذي بالكاد يستجيب لحاجة العيال
-فلماذا الشره؟ لماذا العذاب لها ولدابتها؟ ما ذنبنا حتى نزعج قيلولتنا؟
في خلد الشيخ جالت هذه الأسئلة، وهو العارف معنى ندرة الماء، كما لا يغيب عنه خبث ومكر بعض الناس الذين يقتلهم الحسد والكره والجشع، ومهما كان لا يرد طالب الماء… صبرك يا أيوب… اللهم اكفني الهم.
أمطرت السماء وفاض الواد وامتد لسانه نحو نخيل الغابة العطشى حتى أضحى النخيل يتملى قده ومسدول جريده، برك الغدير البنية وقد استحالت مرآة متلألئة تباهي فوانيس السماء بعد ترسب الطمي.
في مشقة وتعذر سبل القرية، كان شغل الناس مسابقة هروب الماء، فأقبلوا على حرث الذرة، فازداد الطلب على الحمير المروضة لسكة المحراث خضير خطوط نظيرة تزينها غرة ملوحة تحت ايقاع نسيم يجلو ضفائر ذهبية.
استغلت المتصابية الفرصة، فباعت مركوبها أضعافا مضاعفة وأغراض السوق يلبيها النقل المزدوج، ولكلاب حراسة الحمار أن تتيه حرة طليقة.