استهلال
مليكة معطاوي بقدرتها الفائقة على الكتابة البهية توجه وجهتها للشمس بقوة وتهتف مع
الفنان والكاتب هيلين كيلر: (وجه وجهك لأشعة الشمس وسوف لن تستطيع رؤية الظل).
قال في حقها عبد الرحمن هاشم: (الأديبة المغربية مليكة معطاوي، شاعرة ومترجمة متخصصة في النقد الأدبي المقارن، لكنها قبل ذلك درست علم الرياضيات ما أكسبها فضيلة الجمع بين العلم النظري والعلم التطبيقي.
حاولت إسقاط حصيلتها المعرفية الرياضية على ذائقتها الأدبية، فأثمرت النظرة التحليلية المتعمقة، التي تضع النصوص تحت مجهر القواعد والأسس والمعايير النقدية الأدبية، فتخرج من مجال الأدب أدعياء الأدب، بميزان رياضي دقيق لا يعرف المحاباة ولا المجاملة.)[3]
مليكة معطاوي تكتب الشعر بطعم الابداع وتنتقل من ابداع الى ابداع ناقدة ومترجمة وشاعرة محتمية بالظل الذي تعيش تحت ظله مصداقا لقول عنترة بن شداد: (فعيشك تحت ظل العز يوما*** ولا تحت المذلة ألف عام).
1- في أسرار الظل الأخير
يكتب جون جاي: (وهكذا يدين الظل بميلاده للضوء.)
فتجيبه مليكة معطاوي بلغة شاعرية:
(يتسور الظل احتراقا
خلف أغصاني،
يهامس لحن أشعاري
حروفا من صحاري الذات)[1]
ذات بهاء هتف امبرتو ايكو: (ما هي الحياة إن لم تكن ظل حلم عابر؟)
فأجابته مليكة معطاوي بلغة الحلم قائلة:
(رغبت أن أكون غيما،
أن أضاجع السماء،
وأستريح في ظلال العاشقين
من ظلام كنته)[1]
لقد صدق محمود درويش عندما قال: (حين تسير ولا تجد الحلم يمشي أمامك كالظل…….. يصفر قلبك.)
وصدقت الشاعرة مليكة معطاوي وهي تكتب بلغة الحلم:
(تتورد أحلامي
تنتصب مرآة تعكس أشعاري
تسكن ملامحك ظلالي
كالدفء يجتاحني
بين اللحم والعظم)[1]
وها هي الشاعرة تسابق الليل من أجل نهار بهي، فتكتب:
(استقامت دروب ليال طوال،
سرت فيها وراء ظلال،
أسابق خطوي اتجاه النهار)[1]
لنقرأ بتمعن وتأمل قصيدة (عَيْنَانِ.. وَحُلْمٌ): من ديوان “أسرار الظل الأخير…”
بقلم الشاعرة مليكة معطاوي / المغرب
(عَيْنَانِ تَرْتَاحَانِ
مِنْ فَوْضَى الضَّجِيجْ،
فِي رَاحَتَيْ حُلْمٍ،
تَرَقْرَقَ فِي عُيُونِ اللَّيْلِ،
يَغْفُو أَوْ يَهِيجْ.
فَتُصَوِّبَانِ إِلَىَ بَقَايَا الْعُمْرِ سَهْماً،
يَسْقُطُ الْنَّبْضُ الْقَتِيلُ،
يَفِيضُ نَهْرُ الْهَمْسِ بِي،
أَنْسَابُ حَيْرَى كَالْغَدِيرْ،
فِي مِحْجَرَيْ عَيْنَيْنِ،
تَرْتَادَانِ جُرْحِي،
أَيْنَمَا سَارَتْ خُطَايَ،
يَكُونُ مَنْفَاهَا الْأَخِيرْ،
تَتَنَزَّهَانِ عَلَى..
بِسَاطٍ مِنْ حَنِينْ.
تَتَقَاسَمَانِ الصَّمْتَ،
فِي جَمْرِ الْسَّرِيرْ،
يَسْتَيْقِظُ الْأَمْسُ الْقَرِيبْ،
يُلْغِي تَفَاصِيلَ الرَّحِيلْ
مِنْ مُنْتَهَى عَيْنَيْنِ غَائِمَتَيْنِ،
شَارِدَتَيْنِ، كَالصُّبْحِ الْيَتِيمْ،
إِنَ أَمْطَرَتْ إِحْدَاهُمَا،
نَزَفَ الْمَدَى، وَبَكَى
بِآلَافِ الْعُيُونْ.
عَيْنَانِ يَزْهُو فِيهِمَا
هَمْسُ الْجُنُونْ،
تَتَوَسَّدَانِ ذِرَاعَ صَحْوٍ،
نَحْوَ أَحْلاَمِ السُّكُونْ،
تَعْلُوهُمَا أَمْوَاجُ شَوْقٍ،
تَمْلأُ الْأَقْدَاحَ مِنْ نَسْغِ الْحَيَاةْ.
عَيْنَانِ تَشْتَاقَانِ
مِنْ ثَغْرِ النَّهَارِ الْأُمْنِيَاتْ،
إِنْ جَفَّ كَأْسُ الْ حُلْمِ،
عَرْبَدَ فِي الدُّجَى
طَيْفُ الْهَلَاكْ.
أَتُرَى يُفِيدُ الْحُلْمُ،
وَالْعَيْنَانِ يَائِسَتَانِ،
تَائِهَتَانِ فِي قَاعِ الْفَرَاغْ…؟)
2- مرايا مليكة معطاوي
لكل منا مراياه الخاصة التي يرى ويجد فيها نفسه وبوحه، ألم يقل سابقا ويليام شيكسبير: (الفن مرآة تعكس الطبيعة.)
وبعبارة بليغة هتف جورج بيرنارد شو: (أنت تنظر الى المرآة لترى وجهك، وتستخدم الأعمال الفنية لترى روحك.)
لنتأمل المثل الروسي القائل: (ليس خطأ المرآة إذا كانت للوجوه عيوب.)، ولهذا قال جمال الدين الأفغاني: (ما أجملك أيها الإنسان المعجب بنفسه في مرآة نفسك، وما أقبحك في مرآة غيرك.)
قلت لنفسي مرددا لازمة مليكة معطاوي لقصيدتها (وجهٌ في المرآة) :(إذا ما رأيت وجهي في المرآة،) فماذا ترين ياسيدة الظل الظليل؟
فكان الجواب شعرا والتفكير شعرا:
نص قصيدة (وجهٌ في المرآة)
(إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت بيتا بلا أركان
وقسمات باهتة،
تجلس فوق دمار
وليلا من تيه، من جنون
ومن هذيان
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت ألف جبين مقطب
وآلاف التساؤلات على هدب،
ترتقب
وشفاها مصلوبة على جدار عمر،
قد رحل
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت خطى خائفة،
تتوغل في سراب
ودربا طويلا تعدو فيه،
رياح أحزان
وأغنية شاردة،
تبحث عن قرار ..
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت ضفيرة مجدولة،
من أوهام
وشمسا مشنوقة،
على بوابة زمان
وصبحا دامعا،
أعدمه ضوء انكسار..
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت خيول رغبة
تركض خلف جدار
وزوبعة من غبار،
تلوث مرآة العين
تشعل حرائق بلا دخان
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت بقايا حلم،
يسافر فوق غمام
وعصافير شوق
تقرع بابا،
أدمته الأغلال
وأطيارا في الدم، تغرد
تحمل إلى القلب
بعض أغانٍ وأشعار
إذا ما رأيت وجهي في المرآة
رأيت عيونا منكسرة،
تطفو على سطح انتظار
وجبينا موشوما
بأحلام من رماد..
ووجها صغيرا، ملقى
على هامش الحياة..)
بقلم الشاعرة مليكة معطاوي / المغرب
3- الكتابة ومليكة معطاوي
تقول الأديبة والمبدعة مليكة معطاوي: (الكتابة بالنسبة لي ليست ورطة، إنها متعة ومتنفّس وحياة أخرى خارج الحياة. منذ عرفت ملامح الحروف وأنا ألامسها بحبّ، وأحاول أن أعطيها شكلا من الأشكال المتميّزة، بعيدًا عن المعادلات والفرضيات والنظريات العلمية. لم تكن بيني وبين الكتب مسافات، نهلت من مشارب مختلفة فأدمنت القراءة منذ نعومة أظافري حتى أينعت سنابل الحرف في حقولي ونضجت ثمارها رويدًا رويدًا، وتدلّت رؤوسها تدريجيًا سردًا وشعرًا. كانت البداية مشاعر طفولية حاصرها الوجع فجأة، فانسابت صعودًا وانكسارًا، لكن كلّ قصائدي الموالية كتبتها بلهفة البدايات الأولى، وكل قصيدة تكون بمثابة المرفأ الذي أستكين إليه في لحظة ما، فتعطيني الكثير من السعادة والأمل).[4]
4- طقوس الكتابة
تقول مليكة معطاوي: (القصيدة مشاعر متداخلة تداهم المبدع دون سابق إنذار، تقتحم عوالمه الخفية وتتبلور عبر تفاعلات كيماوية يؤجّجها موقف أو حدث أو إنسان، فلا تخمد في حالتي إلا عندما يسدل الليل ستائره فأرتدي إكليل التجلّي وأتسلّل نحو البياضات المتولّدة في خبايا الروح، حيث تشتعل الذاكرة وتترصّد محطّات العمر، فأكتبني بدمي أخلّد حرائق بلا دخان.
لابدّ من صمت مهيب يملأ أرجاء البيت والكيان، ويتناسل في النبض ليوقظ حرارة الوجدان فتتلألأ حروف القصيد وتنساب سكرى كالعباب.)[4]
5- نوارس مليكة معطاوي
اشتغلت مليكة معطاوي محررة بمجلة (نوارس الشعرية)، العربية التي تصدر في مصر…
وللنوارس أحاسيس البهاء، حيث تجد متعتها في البحر وقربه..
وذات أمل وتمن هتف المستكشف الفرنسي رينيه كازيل: (أود أن يكون بيتي مشابهًا لرياح المحيط، وكلها ترتجف مع النوارس.)
ليجيبه الشاعر والكاتب الإنجليزي جون ماسفيلد قائلا: (لا بد لي من النزول إلى البحار مرة أخرى، إلى الحياة الغجرية المتشردة، إلى طريق النورس وطريق الحوت حيث الريح مثل السكين وكل ما أطلبه هو غزل مرح من رفيق متجول يضحك، ونوم هادئ وحلم جميل عندما تنتهي الحيلة الطويلة.)
وبلغة التأمل كتب الأديب الفيلسوف ريتشارد باخ: (النوارس الذين يحتقرون الكمال من أجل السفر لا يذهبون إلى أي مكان، ببطء. أولئك الذين وضعوا السفر جانباً من أجل الكمال يذهبون إلى أي مكان على الفور.)
وفي (قصيدة النوارس) يهتف الشاعر قاسم حداد:
(هل أنتَ وطني؟
لستُ في ريبةٍ ولا في ثقة؟
ولكن النوارس المذبوحة في قلبي
لا تقدرُ أن تنام؟
تظلُ مرعوشةً تنتفضُ وتَرّهَشُ
فتصبغ ثيابي بأرجوانها
لا تخجل النوارسُ من ذبحها
لم تكن في ريبةٍ ولا في ثقة؟
ولكنها كانت تسألُ
هل أنتَ وطني؟
تلك النوارسُ المذبوحةُ في قلبي
والتي لا تنامْ
ماذا أقولُ لها لكي تهدأ في الذبح؟)
6- مليكة معطاوي تشتهي الليل بطعم الابداع
تقول مليكة معطاوي: لي ديوانان، أسرار الظل الأخير، واشتهاء الليل، وهذا الديوان الثاني هو الذي جاء بي إلى القاهرة، لأنه يتضمن قصيدة “اشتهاء الليل” التي فازت بالمركز الأول في شعر التفعيلة في المسابقة السنوية التي تنظمها مجلة همسة للآداب والفنون.[3]
7- مليكة معطاوي والشعراء
تقول مليكة معطاوي:
(أدين بالفضل للمتنبي، وعنترة بن شداد، وزهير بن أبي سلمى، ونزار قباني، ومحمود درويش، وفدوى طوقان، وأحمد شوقي، ومحمد بنيس، ومحمد بن طلحة وأسماء كثيرة جداً، ذلك أن تكويني لم يكن أدبياً محضاً، فكنت أقرأ بنهم كل ما يقع تحت يدي من قديم وجديد.)
8- مليكة معطاوي والشعر
تقول مليكة معطاوي: (الشعر هو ديوان العرب وما يزال له حضوره في أمة العرب وبخاصة في الساحة الثقافية، ومهما ابتعد الناس عن الشعر، فإنه يظل قابعاً في وجدانهم ينتظر حالة الاستدعاء.
ولك أن تعلم أن إيمان العرب بشعرهم جعلهم لا يهتمون بما يكتبه الغرب، لأنهم ظنوا أنه ليس فوق شعرهم شعر، وليس فوق دولة شعرهم دولة.)[3]
خاتمة:
ذات اشراق هتف جلال الدين الرومي: (أبقِ عينيك على النور لتعبر كل هذا الظلام..)، وبالأدب الراقي سنعبر جميعا ظلام الجهل.
وكل نور وأنتم بألف نور.
ذ. مجد الدين سعودي / المغرب
احالات
[1] ديوان لمليكة معطاوي صدر سنة 2011
[2] ديوان لمليكة معطاوي
[3] من حوار مع عبد الرحمن هاشم نشر بموقع شموس
[4] من حوار مع عبد الواحد مفتاح نشر بموقع الموجة